قراءة سابقة بقلمي لنص ( حَواس) للقاص المتألق ا. عبد المنعم الجبوري./ الكاتب جبار القريشي / العراق ................
قراءة سابقة بقلمي لنص ( حَواس)
للقاص المتألق ا. عبد المنعم الجبوري.
...................
(حَواس
ضعفت رؤيته الذليلة، تذوق جدب الأرض المجروحة، تغذى من قوت الظلام، تلمس ضميره، استرق السمع المشين، فقد حاسة الشم، الا النتن في باحة الورود.).
......
حين قرات النص دفعني الفضول لأغور في أعماقه، نقداً وتحليلاً، لإظهار مواطن الجمال فيه، ونقاط الضعف والإخفاق إن وجدت.
وقد بدأت بعتبته العنوان، فقد اختار القاص مفردة نكرة «حواس»، والتي كما يبدوا أشار فيها للحواس الخمسة التي تَمَيزَ بِرُقيِها الانسان مضافاً اليها العقل عن باقي المخلوقات، وربما كان يشير هنا للإحساس ومواطن الفرح والسعادة والحزن والالم لدى الانسان، فكلمة حواس في اللغة العربية هي جمع لمفردة حاسة، والحاسة تعني قوة طبيعية ذاتية يدرك بها الانسان أو الحيوان تأثير الأشياء الخارجية عليه،
لكنه هنا وظف كلمة حواس جامعا كل القوى الطبيعية التي وهبها الله تعالى للانسان، وليس بعضها ليرسم بتنوعها لوحته التي سماها الحواس.
بدءَ تلك الحواس بالرؤية والتي هي من أهم الحواس التي يميز بها الانسان الاشياء بمجرد النظر اليها مباشرة دون الحاجة للحواس الأخرى لتكتمل لديه الصورة، غير أنه وصف هذه الرؤيا بالذل الذي سبقه الضعف، وهنا ربما أراد أن يقول بأن بطل قصته كان سيء الظن بالآخرين، قصير النظر في حكمه على الأشياء، وهذا النوع من البشر سلبي بطبيعته، لايجد غالباًمن يحترمه في المجتمع، ولهذا نعت نظرته بالذليلة.
ثم انتقل القاص بمهارة الى حاسة أخرى وهي حاسة الذوق، وكيف تذوق الارض البور الجدب اليابسة، وقد أضاف لها صفة اخرى وهي انها مجروحة، وهذا تعبير مجازي سخره الكاتب ليوحي لنا أن الارض اليابسة مجروحة بطبيعتها، ربما بسبب اهماله لها أو اهمال الفلاح لها أو الحكومة أو أي جهة مسؤولة عن حرثها وبذارها واروائها والاعتناء بها، لترتدي حلتها الخضراء الجميلة، بدلاً من أن تبقى جدباء يابسة مقفرة بسبب الاهمال المتعمد.
ثم انتقل الكاتب لحاسة التذوق، ليتذوق قوت الظلام، وهنا إشارة كما يبدو للظلم والاستبداد وربما للفساد الذي يمارسه المسؤول او الحاكم وما يعقد من صفقات مشبوهة تحت جنح الظلام، مما أحال كل شيء الى ظلام، وبات المستقبل في عيون ااشباب المحبط ظلام في ظلام، حتى ان الناس باتت تتناول طعامها تحت عتمة الظلمة التي يشتق منها الظلم.
لينتقل كاتبنا فيما بعد الى حاسة أخرى وهي حاسة اللمس، ليتحسس بها ليس شيئاً ماديا مرئياً، وانما تحسس فيها ضميره، وهنا ربما الملامسة لاترتقي الى مستوى الهز العنيف والنهي والردع ، واِنما تفحص ضميره فوجده نائما.
راح بعدها لحاسة السمع، والسماع الذي نعته بالمشين، أي بمعنى أنه كان يسمع الوشاية والكلام الملفق عن الاخرين، أو ربما أنه كان لا يسمع إلا المديح المزيف عنه من المتزلفين والمنافقين.
لتاتي النهاية الصادمة التي فقد فيها آخر حواسه وهي حاسة الشم والتي باتت ميتة معطلة عن شم كل العطور الطيبة في باحة الورود ، وهي اشارة الى كل ماهو خير وطيب وجميل في المجتمع، إلا انها أي حاسة الشم ظلت فاعلة في شم الروائح النتنة، أي الاخبار والافعال السيئة والملفقة، بمعنى انها تعمل في اجواء النتانة فقط.
خلاصة النص:
كأن القصة تتحدث عن مسؤول فاسد، سخر جميع حواسه للسوء، فهو قصير نظر، ذيل تابع للغير، وبتعبير آخر أنه عميل، ولهذا نعته بالذليل، كون العمالة بمفهومها المتداول ذلة، وقد أكل أو بدد هذا المسؤول بجشعه أو بفساده أو عمالته للأجنبي خير الأرض المؤتمن عليها، والتي بسببه صارت جدباء جريحة، ولم يتحرك ضميره لإصلاحها وإصلاح أحوال رعيته، ومع ذلك حرك كلابه يتلصص على الآخرين لكي يوقع بهم، بالاضافة الى أنه فقد إنسانيته، ولم يكون له حضوراً إلا في المواقف المشينة..
النص من وجهة نظري قدم لنا صورة واقعية لكثير من المسؤولين والحكام في عموم بلداننا العربية، ممن ماتت حواسهم وضمائرهم، فأوصلونا الى ماوصلنا اليه.
مايؤخذ على النص أنه لم يذكر صفة معيبة لضميره حين تلمسه كما ذكر للحواس الأخرى، فقد وصف الرؤية بالذليلة، والسمع بالمشين، والتذوق بالارض المجروحه و قوت الظلام، وللشم النتانة، لكنه كما اسلفت لم يعطي صفة لحاسة اللمس عنده حين تلمس ضميره، لاننا من تلك الصفات اهتدينا الى شخصية البطل ونواياه، وربما استخلصنا من تلك الصفات فكرة النص، ولو اضاف صفة لضميره لاتضحت الصورة أكثر.
أما غير ذلك فلم نجد من وجهة نظري مايؤشر عليه من عيوب.
في الختام اقول إن النص مصاغ باحترافية ومهارة عاليتين، من حيت العنوان وشموليته، واللغة والتكثيف والتصاعد السردي والنهاية الصادمة، وعموم الصياغة، لذا اقف مبهورا امام هذا النص الرئع الذي كرس في داخلي رغبة القراءة والاستمتاع.
أكرر اِعتذاري لاساتذتي...واتمنى أن أكون قد وفقت في إلقاء حزمة ضوء ولو بسيطة على جانب من جوانب هذا النص الرائع الذي ينطوي حتماً على جوانب جمال ووجوه وتأويلات أخرى لدى الاصدقاء، وربما بل بالتأكيد هناك أبعاد أخرى للنص في خيال الكاتب البارع أ. عبد المنعم الجبوري الذي أتمنى له كل خير..مع خالص التحية والاحترام لجمبع الاصدقاء الاعزاء.
....................
الكاتب جبار القريشي.
تعليقات
إرسال تعليق