مشهد من مسرحيتي.. (الراقصة)..للكاتب جبار القريشي/العراق. ..............

 مشهد من مسرحيتي..

(الراقصة)..
جبار القريشي/العراق.
(تدور عفيفة وهي مضطربة، تلتقط القداحة الملقاة جانباً، تتأملها مقطبة، كأنها تستعيد معها ذكريات محفورة في أعماق ذاكرتها التي باتت صدأة، ترى فيها «أمين» وهو يدخل بهيئة شيخ كبير من احدى زوايا المسرح يتصاعد لهاثه وهو يمشي نحوها يحمل كيساً فيه قناني شراب مُسكر ظاهرة أعناقها من الكيس، تهتف بوجع.. معاتبة).
عفيفة: ويح نفسي..!، حتى أنتَ يا.. أمين..!.
(أمين يقف أمامها، بتمسكن..)
أمين: إنها الظروف يا عفيفة، وها أنا قد أتيت.
عفيفة: الآن.. وقد هجرتني كل تلك السنين.!؟.
أمين: غصبن عني، ما باليد حيلة، الظروف حاكمة ياعفيفة.
عفيفة: وهل تنفع زخة مطر عابرة في أن تحيي حطام نبتة ميتة منذُ أمد.. يا أمين.!؟.
أمين: مازال عودكِ طرياً أخضراً يا عفيفة، ولديَّ من المطر ما يحيي الموتى في القبور.
(تنظر اليه باستخفاف وكأنها شعرت بالإهانة، فعجلته بالرد القاسي)
عفيفة: من هوان الدنيا أن تتصدق عليَّ بكلماتٍ بائسة تحاول أن تغسل بها ثياب خاطري الغاطس في وحل الاحباط واليأس.
ربما نسيت كيف كنت بالأمس تستجدي مني ابتسامة مجاملة تمسح بها تراب انكساراتك المتلاحقة يا أمين.. يا لهواني.!
أمين: لا يليقُ بكِ الهوان غاليتي، فلمثلك تنحني القامات بكل جبروتها، وهل تعلو العين على الحاجب.. يا عفيفة.
عفيفة: وهل هناك من هوان أكثر مما أنا فيه الآن.
أمين: قسماً.. سأعوضك عما فاتكِ من قاطرة السنين، وسأجعل بوار أيامك مروجاً خضر.
عفيفة: قاطرة السنين تهالكت حطاماً يا أمين على سكة الأمل المذبوح بمديات الواقع المؤلم منذ أن تعهد الليل الخلود، فلا أمل لشمس النهار في أن تشرق يوما لتنير ظلمات النفوس الغارقة في دوامات الاكتئاب والعتمة.
كُفَ عن هذه النغمة البائسة يا أمين، وعد من حيث أتيت.
أمين: أتطردينني يا عفيفة!؟، امنحيني فرصة، وسأسرج ظلمات روحك بالقناديل، وأملأ فضاءاتها بالأمل والبهجة.
(تهز يدها.. هازئة.)
عفيفة: لم تعد تلك الوعود البائسة المحملة بسراب الأكاذيب تداعب شغاف إحساسي الآيل للسقوط ياأمين، كفاك جعجعة فارغة، من أين لك كل تلك الطاقات.؟ وعروقك يابسة، وسيفك مكسور، فما صولاتك الا زوبعات في فنجان فارغ يسوقها خيالك المرتهن بمغامرات الماضي أيام كنت شاباً.. يا أمين.
أمين: حين تطيب النفوس، وتهب نسمات الوئام بيننا من جديد، سيعود سيفي شاهراً نصله وهو يصول ويجول في ميادين الغزوات لامحالة يا عفيفة.
عند ذاك.. سأشق سواقي الأمل، وألقي بذار الحب في خاصرة الأرض التواقة للحياة فأحيلها الى مروج خضر.
عفيفة: أي زرع.. وأي بذار.!؟ فلقد ذهب الجميل، ولم يبقَ الا ما هو قبيح، ومنجل الأيام أراه جاداً في حصاد الرؤوس اليانعة، وقد آن أواننا، فلم المكابرة يا رجل.!؟.
كفانا نكذب على أنفسنا يا أمين..!.
(مستاءً)
أمين: أرجوكِ.. لا تبالغي في تقريعي، والإيغال في جرح مشاعري والاستخفاف بي.. يا عفيفة،
فلم أعتد الكذب، وأنتِ أكثر من يعرف عني ذلك.
عفيفة: كل ما في هيئتك يصدح بالكذب يا أمين، أتضحك من نفسك؟،
أمين: هكذا يا عفيفة!؟.
عفيفة: يبدو أن قاطرة الأيام قد ألقتك حُطاما من نافذة الإهمال كأي ثوبٕ بالِ، فجئت لترمم بقايا أيامك الهزيلة، وتغزل بلسانك الثرثار خيوط الأكاذيب الفارغة تلك التي اعتدناها منك أيام الزهو، ظناً أنها مازالت رائجة.
أمين: كفاكِ تقريعاً يا عفيفة، لماذا كل هذه القسوة وأنت تُلقينَ على رأسي أنواع البذاءات.!؟.
عفيفة: لم أتجنى عليك يا أمين.
أمين: ما رميتني به أرى أن فيه ظلما كبيرا.
(هازئة متهكمة)
عفيفة: عن أي ظلم تتحدث.!؟.
وما لذي جاء بك الآن بعد كل تلك السنين التي تخفيت بها كأي فقمة طاب لها السبات تحت جبال الجليد.
أمين: قلت لك أنها الظروف.. صدقيني، وهي من حالت دون مجيئي يا عفيفة.
عفيفة: وما الذي تغير في الظروف، لتأتي بعد فوات الأوان!؟.
أمين: إنه الحنين الذي اجتاحني اليكِ كالطوفان يا عفيفة، ولم تهِن علي العِشرَة.
عفيفة: لكنها هانت على الجميع ممن شربوا رحيق عمري وألقوني كأي علبة عصير فارغة على قارعة الأهمال.
أمين: لكن الامر مختلف معي تماما.
عفيفة: كلكم معشر الرجال من طينةٕ واحدة.
أمين: إلا أنا..
عفيفة: وبماذا تختلف أنتَ عنهم..!؟.
أمين: لم يخطر في بالي يوما ان أتخلى عنكِ يا عفيفة، لولا الظروف القاهرة التي أجبرتني.
(تنتفض.. وكأن شيئاً ما وخزها.. تتحدث بصوت موجوع.)
عفيفة: لكنك تخليت، لا تحاول أن تجمل صورتك يا أمين، كلكم تخلى.
وقد تناسيتم بل تنكرتم في لحظة.. كم سقيتكم من رحيق مشاعري، وأغدقتُ عليكم المال الذي كنت أجنيه بالتعب والسهر والعرق.
وكنتم جميعا ذئاباً مسعورة يسيل لعابكم طمعاً في افتراس جسدي الطري وتمزيقه إرب بلا رحمة على فراش غزواتكم الماجنة، لكنني أقفلت عليكم الابواب والنوافذ، وكبحت لهاث نزواتكم، وخيبت أحلامكم المريضة، رغم أني كنت أعيش وسط بيئة لا تقيم للشرف وزنا، لكنني عاهدت نفسي أن لا أكون كأي سلعةٕ رخيصة، وكانت تلك وصية أمي لي رحمها الله.
أتنكر ذلك يا أمين..!؟.
(يكتف يديه على صدره)
أمين: بل أشهد على طهارتكِ، وأقسمُ على ذلك بأغلظ الأيمان.
عفيفة: ما الفائدة؟ وقد نزعتم جلودكم حين هبت رياح جديدة، ولبستم جلوداً أخرى، وظهرتم بمظهر الملائكة، وبعضكم قصَرَ ثوبه، ومهر جبهته بسيماء مزيفة، وراح يجلدني بلسان العبد الزاهد الواعظ الذي استحال سوطاً لاهباً لا يرحم.
نسي أنه كان قد هجر أهله ودينه واتخذني قبلة له.
لا بل نسي أو تناسى أنه كان يؤدي نوافله وبعض من فروضه على ذيال مؤخرتي.
كلكم تخليتم.. لا تحاول أن تتقمص دور الحمل الوديع.. يا أمين.
(متسائلاً باستغراب)
أمين: أنا يا عفيفة..!؟.
عفيفة: نعم.. أنت يا أمين، ألستَ واحداً من تلك الشلة التي كانوا يتفاخرون بخدمتي، والتودد إليَ.؟.
(أمين، بانكسار)
أمين: سامحكِ الله، وهل منا من ينكر ذلك يا عفيفة.
(يحاول أمين متودداً استعطافها، ومسك يدها، تسحبها بقوة، وتصرخ ناهرة..)
عفيفة: لا تلمسني يا هذا، ولا تتوهم أنك تستطيع أن تلحس عقلي بترهاتك الفارغة التي تفوح منها رائحة الكذب، واعلم.. أن ذاك زمن مضى حين كنت أصدق فيه كلامك المعسول.
« لها بقية».
لا يتوفر وصف للصورة.
حيدر الحاتم و٥ أشخاص آخرين
١٢ تعليقًا
أعجبني
تعليق
مشاركة

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لحن الحنين/ نص لينا ناصر / لبنان ..................

من رواد الآرت نوڤو: ألفونس موتشا/ مقال للناقد محمد خصيف / المغرب ,,,,,,,,,,,,,,,,,,

رؤى .../ نص للكاتبة مها سلطان / مصر.............