استاذ ابتهال

 شباك آدم .

عند الفجر ينهض البعض بصعوبة متأوها من تعب النوم وكأنه عمل إضافي لابد منه ، هكذا أنهض ومعي الأوجاع تساعدني على الوقوف للتأمل في ما يحمل يومي من خلف الشباك الضيق العالق بحائط غرفتي القديمة ، كشباك آدم الذي وقف لينظر منه إلى الأرض بحزن حين كرهَتهُ وأقسمت على رفض شرب دماء بنيهِ المقتولين متهمةً إياه بتخريبها .                                              هذا الصباح زارني أموات كثيرون ليخبروني أنَّ الموت لا يُخيف. إني أنتظر النهاية لكن ليس بموتي بل بنهاية الدمار , فـ معي تستمر الحياة , إنَّه هاجسي المتفرد , وليس ككل هواجس الأحياء حين يبحثون عن قشة يتشبثون بها.

قطعة صغيرة فقط من السماء هي ما تصل إليها عيوني حين أنظر   لكنها الشيء الوحيد الذي يجعلني أشعر أنني إبنة آدم المملوءة بالقوة والحزن .  

عالمي ضبابي أو يملؤه الغبار, الأرواح تسير بقربي وأسمعها تتحدث بنشوة الخلاص . سأتوقف عن جنوني لبرهة لأروي قصة حزني حين ارتدى أحد أولادي رداءً مسموما  فتك به وبمن حوله , حينها ارتكبتُ جريمتي وضاع مني الجميع.

كان الوقت قبيل الغروب حين كنت أستعد لأعدَّ طعام العشاء , زوجي الذي شاخ مبكرا بالزهايمر يجلس في زاويته  ليمارس صمته ,  وعند الأريكة يتمدد ولدي هابيل يراقب التلفاز , الجو ساخن جدا وصوت السيارات ورائحة الوقود تصلنا بكامل قوتها لتعيث بأعصابنا وصحتنا أكثر من قيظ تموز . 

أنظر كل حين من خلف باب الدار أنتظر قدوم ولدي الآخر الذي يتهمني أخوه بسوء تربيته ودلاله المبالغ فيه , لكنَّ الحقيقة أنني لم أتمكن من كبح جماح رغباته التي تنتشر في كل الإتجاهات بشكل يرعبني , يأتي أحيانا مترنحا بسكره لتشب معركة مع أخيه و أكون الفاصل بينهما , إنه ابن العشرين عاما ، هكذا يقول (أمي إني بلا مصير ).                                                                    كنت أُخفي عن الجميع إصراره على سلبي المال وليس أخذه  لينفقه على ما يجعله غائبا عن عالمه . 

اليوم تأخر كثيرا , حلَّ الليل قاتما والشوارع أسمع سكونها المريب مما يحصل من  قتل وتخريب , تنهدتُ بحسرة فربما لن أراه ثانية , أقفلت الباب  و سكنت إلى جانب بعيد عن نظر الجميع لأبكي . ساعة مرت كأنها سنة ثم جاءت طَرقات كثيرة على بابنا فزع منها الكل , ركض هابيل ليفتحه فدفعتُهُ لأكون أنا في المقدمة وكان قابيل , يقف أمامي و   قد تغير لونه بشكل غريب , عاد هابيل إلى مكانه دون أن يتكلم , دفعني قابيل عن طريقه فضربني الحائط ( وليس ولدي) بقسوة صرخت بألم وسقطت , عاد هابيل مسرعا ليساعدني على النهوض  وأمسك بأخيه يضربه ليردها إليه قابيل أقوى وكأنَّه رجل من حديد فسقط هابيل مضرجا بدمائه , لقد ذبحه , كان قابيل يحمل شفرة حادة واتجه نحوي فركضتُ هاربةً منه , كان لا يملك وعيه ربما نصيب اليوم من عبثه كان بعض المخدرات التي جعلته وحشا , تناولتُ بسرعة سلاحًا صار مباحًا في كل البيوت لأُطلق النارعليه فسقط بجانب أخيه ميتاً . صرتُ وسط بركة من دماء ولديَّ , دمًا متشابهًا لا ينقصه سوى دمي لتكتمل ملحمة جديدة من قصة آدم و ولديه , أنا الأم القاتلة  فأين الغراب ؟ متى يصل رسول الدفن الأسود ؟ غلبتني الحيرة و أنا أنتظره  في سجني , غرفتي و شباكي و بصري نحو السماء , أنتظره ليعلمني كيف أدفنهما ,    أنا الضائعة في عالم الدم . 

ستقولون عني غريبة الأطوار لكنها الحقيقة لقد علمت مما عشت  أنَّ من عادة البشر أن ينتظرون الخيبة فهي قادمة إليهم عاجلا أم آجلا , لكني سبقت الزمن حين عرفت أنَّ عوالم أخرى تتحكم فينا وأنَّ خيباتنا تنفعها فقد أصغيت للصوت القادم من الفضاء لأدخل لعبة جديدة دون علم أحد من اللاعبين أصحاب القدور التي تفور على الدوام .                                                                لقد وافقت بأن أزور احداها فطلبوا مني أن ألبس رداءً خاصا للانتقال والتقصي كي أجد هناك ما يناسبني وبما يوافق فكري , وبما أنني الأولى في التجربة فلي الحق أن أسنَّ قانونا من نقاط أضعه حسب ما عشته و بشروطي لتجربة زيارتي المرتقبة . هكذا كنت أفكر عبر رحلتي إلى العوالم الفاقدة للزمن , إنَّها تفتح أعيننا على مصراعيها لنرى قباحتنا ، أو غباءنا  بالتفريط في عظيم ما نملكه في أرضنا , عوالم ترغب منا أن نتشرذم  و بأن نقتنع أن لا جدوى من العيش معا , فما نحن إلا مجتمعات متزمتة تحكمها الأعراف البالية المريضة  .  

فكرت بثبات أنَّ من حق كل إنسان أن يختارعالمه وبأنَّ لا بوصلات تشير إليه وأن تكون الحياة مبهجة والأوطان مختارة من حيث الحجم ونوع السكان والثقافة , أؤكد بأنَّ لا مجالس للحكام بكل عناوينها ملوك وسلاطين وأمراء و رؤساء وخلفاء للمؤمنين وخلفاء لغير المؤمنين و الخ , فكرت بكل ما يحتاجه إنسان الأرض ليعيش بكرامة وحرية . 

جاءني الرد من ومضة ظهرت لي في السماء : 

الحرية تنبع من داخلكم فقط , كما لا حكمة للغراب لتنتظريه يا ابنة آدم لقد تغيرت الأزمان والقوانين . هل توافقين على ما نريد؟ هل ترافقينا ؟

 وافقت في سري فعرفوا !                                      

وجدت رداءً أسودًا أمامي يفك أزراره ويجهز نفسه لأرتديه , لن أكذب عليكم لقد خفت كثيرا لكنني المختارة رغم علمي أنني ولدت كغيري وعشت حياة عادية جدا باستثناء جريمتي , قدرتي على قتل ولدي  . يالقوتي حين علمت أنّ الفكر لا يمكن أن يكون بريئا بالمطلق بل هو إحدى طرق الشيطان للتحرر ,  نحتاج طرق الشيطان أحيانا لأنه إله الطغاة لندمرهم به.

بدأت يومي مبكرة ومع أول خيوط الفجر لأباغت الشمس بلباسي الجديد الأسود الذي يحبه الفلاسفة حين لم يعد يهتم بهم أحد .    فجأة فقدت قدرتي على الكلام فكان يخرج بدلا عنها القاق ! لكنهم كانوا يفهموني, كما صرت أراهم من حولي أشباحا غريبة بهيئة دخانية لإنسان .                                                              قال أحدهم : إننا نحميك بلغة الغراب لأن للإنسان أعداءً كُثر و ليست كل العوالم مباحة لكم . نحن سننطلق الآن وتحت رقابة كل العوالم فنحن متطورون جدا ولن نتفوق إلا عليكم . قلت بالقاق طبعا : وما سبب حبكم لنا ومساعدتكم هذه ؟

أجابني آخر : ليس حبا ولا مساعدة و إنما هو حاجة لنا بأرضكم , نقصد تبادل منفعة , انتم لا تجيدون الحياة عليها وأفسدتموها و رغم كل الحروب ما زلتم في تزايد ولن تكفيكم للعيش عليها , فقرر مجلسنا بأن تتوزعون على بعض العوالم الخالية من السكان و تبدأون الحياة من جديد بنسق يحترم انسانيتكم ونجهزكم بما تحتاجون , هكذا لمنفعة جميع المخلوقات , حتى الحيوانات التي تختارونها سننقلها معكم حسب الرغبة.

تملكني الخرس لفترة طويلة فما يقوله منطقي جدا , لكن هل أنا صاحبة القرار العالمي ؟ ومن أكون لأجعل الجميع في هذا المشروع الغريب رغم أنه أعجبني جدا كقرار شخصي.

قلت: انظروا عن نفسي أنا موافقة , لكن كيف يكون قرارًا شعبيًا أعني لكل شعوب الأرض ؟ ليس الكل مثلنا , هناك الكثير من الشعوب التي تعيش بهناء ورخاء و لا تفكر بالمغادرة.

أجاب ببرود : لا عليك ما يهمنا هو بلدكم فقط فحين نستوطنه بقواتنا وعدتنا ستسقط الرؤوس الكبرى بسرعة ونكون كما المغناطيس و يتتابع انهيارهم  حتى تصبح كل الشعوب تحت امرتنا ونقرر ما نريد , أما اختيارنا لك دون غيرك فذاك لأنك واعية بقوة لعقل وفكر الإنسان وتتخذين القرار الصائب في وقته المناسب , آدم لم يقتل ابنه قابيل عند الجريمة الأولى , لكنك فعلت دون تردد فأنت بحق تستحقين ألتفوق . هل اقتنعت؟                                  

 " لازمني الصمت فلم أجبه " 

أكمل كلامه  : وصلنا الآن إلى مجمع العوالم التي جهزناها لكم , تأمليها و لك القرار أيتها الامبراطورة .

قلت : مهلا لا داعي لهذا اللقب لأن من شروطي هو عدم وجود هكذا شخوص .

أجاب : لا يمكن ! لابد من وجود قوة حاكمة وقوات محيطة بها.

قلت: إذن نهايتها الهدم أيضا لأنه ببساطة لن تقوم دولة فاضلة إلا بوجود إنسان فاضل يعيش فيها وهذا أمر غير مضمون .

أجاب : الخراب سمة الإنسان فقط أما نحن فلا ، وكما ترين نسبقكم بتطورنا لآلاف السنين , لكنك قويةوستقدرين .

قلت: على كل حال لم أوافق بعد كشعب كي أناقش هذا الشرط , ربما إن حصل سأحتاج قوة وسلطة سامية منكم كما في تاريخ الاستعمار الحديث .. هل هذا ما ترمون إليه ؟               

"لم يرد ! إذن ما أنا فيه هو مشروع استعمار حديث جدا ومن الفضاء".

 كنت مبهورة لما أراه أمامي , كان تجمعا لكويكبات كثيرة جدا ذات ألوان مختلفة  تمت السيطرة عليها لتكون مجتمعة تسبح  كل منها في مجرة خاصة بها يحيطها الجمال والنور و الألوان و تبدو كل منها وكأنها الجنة , تملكني الصمت فقاطعه رفيقي  متساءلا:  هل تسمحين باختيار إحداها لننقلك وتشاهدين بمعرفة أكثر؟ ثم ننقلك إلى أي عدد منها تشائين لتعطينا القرار ونبدأ التنفيذ. 

قلت: وكيف تنفذون ؟

أجاب : دراساتنا كافية لنفهم كيف ننفذ التوزيع , لا عليكِ أنتِ.  نعلم بأنهم يرضون بأي واقع , ولا أجمل من العيش هنا دون خوف و سيظنون أنهم ماتوا وصاروا في الجنة.                                               

 قلت : لأنزل على ذاك الكوكب الأخضر . 

تم نقلي إلى الكوكب فكان الجمال كله و اندهاشي مما أعيشه إن كان حقيقة أم خيالا , لكن عبر العصور يبدو كل شيء كأساطير لأننا عندما نبحث في آثار السابقين كنا نتهَكَم لنَصِفْ إرثهم هكذا و هكذا نحن سنكون مثلهم أصحاب الأساطير الكبرى لأناس قادمون من بعدنا بقرون وبمجرد خلو الأرض منا , لكن أن نعيش هنا سيكون الصفر تحت أقدامنا فلا شيء تحت الأرض أو فوقها , لا وجود لآدم وحواء ومعاناة العصور و آثارهم .. إنهم يريدون منا أجمل ما فينا , أصل الإنسان الحيّ . يا له من قرار صعب يا أم قابيل وهابيل يا زوجة آدم ! 

" كان صوت نقاشي مع نفسي عاليا "

تكلم رفيقي و بانت الخشونة في صوته : يالهذا الجدال في رأسكِ؟ هل تطلبين الحياة والمستقبل أم العودة إلى غياهب تاريخكم المهدم؟

قلت :  وصلتم إلى كل ما أنتم عليه لأنكم تعيشون دون شعور , لم تفهموا أبدا مغزى بناء الإنسان , إنّه العائلة و بصلاحها يصلح كل شيء , بدونها صارت انجازاتكم الآت فقط , تطوركم ساقكم لتحتلوا الكون لكن ما سيكون بعده , ما النهاية ؟ تنظرون إلينا نعيش ونموت ونفرح ونحزن فقررتم ما قررتم , تظنون أنَّ السبب في شعورنا هو أرضنا التي تحوينا ، لن أقرر بتدمير عصورا بناها أحفاد آدم .

أجابني : لو اخترنا غيرك ما كان تكلم مثلك بل ربما سيقبل بسرعة دون أدنى تفكير , لكن لم يرنا غيرك وكان هذا شرط التحاور معكم.

قلت:هل يتمكن أحدكم من الكتابة ؟ أن يدّون مثلا مذكراته؟

أجاب: نحن لا نحتاجها , ثم ماذا ستكون والزمن عندنا سريع جدا , أنا أعرف أننا تمكنا من ضبط وقتنا معك كي يتباطأ ويكون مع زمنكم و وقتكم كي نحقق هدفنا . الزمن مسرع بشكل لا يسمح لنا بمعرفة أي مما تحدثتِ عنه . 

قلت: نحن نعرف الله الخالق ونواميس دينية وجدت على الأرض بطلها الإنسان , أنتم هل عرفتم ذلك في عوالمكم ؟

أجاب: لم نعرف , كما قلت لك فزمننا سريع جدا ولا نعرف إن كنا قبلكم أو بعدكم , كيف ومتى , لم نفكر في كل هذا لأننا لا نحتاجه أبدا.

قلت: تريدون مني اختيار منفى و ليس وطن . أيها الغريب جدا ما أجمل حديثي معك وكأنك عقلي.

أجاب مبتهجا : القرار يحتاج كل الوجوه ونحن قوم نقيس . مازلتِ بحاجة للمفتاح الأعظم لكل معضلة .. إن لم توافقي فلا شيء عندنا نهبك إياه .

قلت : لكن ماذا عن الموت؟ 

أجاب: لا أعلم ! وهل نموت ؟ حديثي معكِ جعلني أفكر كثيرا خارج  سياق تكويني وهو شيء جميل جدا . إن حياتكم رغم ما فيها هي أجمل مما نعيشه , أظن أننا آلآت وربما صنعنا إنسان , سرعة الزمن ربما هي من أفقدتنا كل شيء.

قلت: غير ممكن أن أقبل .

قال: هل قررت العودة بهذه السرعة دون اتفاق ؟ لو قبلتِ لكنتُ بقربكِ في الحكم قائدا بإمرتكِ.

قلت: ما نفع الحياة وجدواها  دون أن نعلم بالآخرين ونعشق ونتألم ونموت ونولد , لا يا رفيقي . أرجو منك أن تعيدني , كما لا حاجة بي للغراب لقد وجدت مفتاح آدم و فهمت سرَّ الشباك ونسبه إليه.

قال بحزن: أنتِ.

.

ابتهال خلف الخياط


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لحن الحنين/ نص لينا ناصر / لبنان ..................

من رواد الآرت نوڤو: ألفونس موتشا/ مقال للناقد محمد خصيف / المغرب ,,,,,,,,,,,,,,,,,,

رؤى .../ نص للكاتبة مها سلطان / مصر.............