مسرحية/ الراقصة / جبار القريشي


 



صحيفة فنون الثقافية العربية
وكالة اخبارية ثقافية واجتماعية 
فنية وادبية شاملة 




مسرحية: الراقصة 

جبار القريشي


(عندما ينام الحراس.. فلا عجب أن نتملق اللصوص.!).


(الخطاب المسرحي)

المسرح بتأثيثه المكاني عبارة عن ردهة مشفى، سرير طبي بعجلات، أجهزة صعق كهربائي، شخص بوجه غليظ يتولى تشغيل الأجهزة، 

 امرأة بملامح جميلة وملابس بلون السماء حُشرَ رأسها بأشبه ما يكون بقلنسوة مربوطة بتوصيلات الى الأجهزة، ربطت يديها ورجليها بأحكام.

تهتز المرأة بكامل جسدها المسجى  على السرير وهي تصرخ بفعل الصعق الكهربائي.

تنتهي جولة الصعق، يطفئ الشخص الأجهزة، وينزع عن رأسها التوصيلات، ويحرر يديها وقدميها، ويغادر المكان.

تنتبه المرأة ( عفيفة) بعد لحظات من الأنين، تجلس على حافة السرير بوجه محتقن، وعينين محاطتان بهالتين سوداوين.. تتذمر.).

عفيفة: هذا الجلاد المتوحش الذي كان يطرق رأسي بسادية مقيته، يا الهي.. كم أبغضه.!.

(عفيفة تشعر وكأن ذاكرتها قد تبخرت، تحاول أن تتذكر ما كان مخبئاً في دهاليزها، تنظرالى  ما حولها وكأنها تحاول أن تتعرف على الأشياء، تجد رزمة ورق لعب على سطح  ديلاب صغير موضوع قرب سريرها، تأخذها، وتبدأ بتصفحها، تبعثرها الى  اتجاهات مختلفة، ثم تقوم بجمعها وهي تجري بين ورقة وأخرى لتندمج مع رقصة جنونية تؤديها باحترافية عالية، كأنها رقصة الموت، تتصاعد في طقوس الرقص مع تصاعد الإيقاع والموسيقى والأضواء، كمن يجلد ذاته وتدور حول جسدها حتى تصل الذروة، فجأة تتوقف عن الرقص وتنفجر ساخطة.).

عفيفة: يا للمأساة..!، لِمَ تركتني؟.

كان الأجدر بك أن تأخذني معك، لا أن تدعني كأي سنجابٕ فتي بين قطيع من الكلاب البرية.

(تتصفح ورق اللعب بيدين مرتجفتين..)

عفيفة: أكلوني لحما وألقوني عظما.

 تبا لهم، لقد تنكروا لطيبتي، وفي لحظة نسوا كل شيء، كانوا يتساقطون عند قدميَّ تساقط الفراشات على الضوء.

كانت مساءاتي عامرة بالامتاع، وليلي حافل بالرقص والموسيقى.

(تهز أردافها بمهارة على ايقاع متقن).

عفيفة: وكيف كانت تتعانق كؤوس النشوة المعطرة برحيق شفاهي المتوهجة على الدوام  بنور البسمات الندية فرحا وانتشاءً على راحات أكف السامرين، وتتراقص أضواء الليل الصاخب على صفحات المرايا والوجوه الطافحة بالبِشر وهي تعكس مشاعر الفرح المتدفق من أعماق النفوس المتوقدة شغفاً وغيرة.

(تحاول تنظيم أوراق اللعب التي مازالت في يديها)

عفيفة: وكم من المرات اشتعل ميدان الرهان بين المتضاربين، كل يُمني نفسه بأن يكسب الجولة ليحظى بشرف مجالستى ولو لثوانِ على طاولة الخلوة، ليلوك اللحظات مُثرثراً بلسانٕ منقوع بالعسل والمَلَقْ وهو يتغزل بجمالي ورشاقة قوامي، ونحول خصري، وخُضرة عينيَ، ينثر على مسامعي قصائد الغزل وهو يشكو فيها نار الشوق والغرام المتأججة في مراجل أعماقه.

(تتأمل عضدها وهي تجر جلدها برفق.. متحسرة)

عفيفة: وما أن تغضنت نضارة أوراقي، وذوت أغصاني، وخبا بريق أزهاري حتى غادرني أقرب الطيور الفة.. يا للمأساة.!

(تنفجر باكية بمرارة.).

عفيفة: تبا لهم.. ولحياة لم يعد فيها أي طعم ولا معنى.

(تفتش بانفعال شديد ويدين مرتعشتين عن شيء ما في طيات ثوبها، تُخرج قداحة غريبة كأنها تعود لأزمنة بعيدة تقدح بها أذيال ثوبها، تحاول مراراً، لكنها لا تتقد، تلُقيها بتذمر).

عفيفة: تباً للموت الذي صار عصياً متمنعاً حين طلبته، وقد كان شبحاً

يطاردني كظلي.

(تنظر الى أحد اوراق اللعب)

سنوات وأنا أعد الأيام والليالي أملاً في أن تعود، كم من الأعوام عليٌ أن أنتظر؟.

ومن أجلك سئمت الحياة ولم يعد لي أملاً فيها.

(تستمر بتصفح أوراق اللعب، تتأملها، بمرارة كأنها ترثي نفسها.)

عفيفة:  ما فائدة شجرة يبست أغصانها؟، وتساقطت أوراقها، ونخر العثُ لبها، وباتت حطباً تنتظر من يوقدها ليتدفأ بسنى جمرها. 

(تدور مضطربة، تلتقط القداحة الملقاة جانباً، تتأملها مقطبة، كأنها تستعيد معها ذكريات محفورة في أعماق ذاكرتها التي باتت صدأة، ترى فيها «أمين» وهو يدخل بهيئة شيخ كبير من احدى زوايا المسرح يتصاعد لهاثه وهو يمشي نحوها يحمل كيساً فيه قناني شراب ظاهرة أعناقها من الكيس، تهتف بوجع.. معاتبة).

عفيفة: ويح نفسي..!، حتى أنتَ يا أمين..!.

(أمين بتمسكن..)

أمين: إنها الظروف يا عفيفة، وها أنا قد أتيت.

عفيفة:  ألآن.. وقد هجرتني كل تلك السنين.!؟.

وهل تنفع زخة مطر عابرة في أن تحيي حطام نبتة ميتة منذُ أمد.. يا أمين.!؟.

أمين: مازال عودكِ طرياً أخضراً  يا عفيفة، ولديَّ من المطر ما يحيي الموتى في القبور.

(تنظر اليه باستخفاف وكأنها شعرت بالإهانة، فعجلته بالرد القاسي)

عفيفة: من هوان الدنيا أن تتصدق  عليَّ بكلماتٍ بائسة تحاول أن تغسل بها ثياب خاطري الغاطس في وحل الاحباط واليأس.

ربما نسيت أنك كنت بالأمس تستجدي مني ابتسامة مجاملة تمسح بها تراب انكساراتك المتلاحقة يا أمين.. يا لهواني.!

أمين: لا يليقُ بكِ الهوان غاليتي، فلمثلك تنحني القامات بكل جبروتها، وهل يعلو الحاجب على العين.. يا عفيفة.

عفيفة: وهل هناك من هوان أكثر مما أنا فيه الآن.

أمين: قسماً.. سأعوضك عما فاتكِ من قاطرة السنين، وسأجعل بوار أيامك مروجاً خضر.

عفيفة: قاطرة السنين تهالكت حطاماً يا أمين على سكة الأمل المذبوح بمديات الواقع المؤلم منذ أن تعهد الليل الخلود، فلا أمل لشمس النهار في أن تشرق يوما لتنير ظلمات النفوس الغارقة في دوامات الاكتئاب والعتمة.

كُفَ عن هذه النغمة البائسة يا أمين، وعد من حيث أتيت.

أمين: امنحيني فرصة يا عفيفة، وسأسرج ظلمات روحك بالقناديل، وأملأ فضاءاتها بالأمل والبهجة.

(تهز يدها.. هازئة.)

عفيفة: لم تعد تلك الوعود البائسة المحملة بسراب الأكاذيب تداعب شغاف إحساسي الآيل للسقوط، كفاك جعجعة فارغة، من أين لك كل تلك الطاقات.؟ وعروقك يابسة، وسيفك مكسور، فما صولاتك الا زوبعات في فنجان فارغ يسوقها خيالك المرتهن بمغامرات الماضي أيام كنت شاباً.. يا أمين.

أمين: حين تطيب النفوس، وتهب نسمات الوئام بيننا من جديد، سيعود سيفي شاهراً نصله وهو يصول ويجول في ميادين الغزوات لامحالة   يا عفيفة. 

عند ذاك.. سأشق سواقي الأمل، وألقي بذار الحب في خاصرة الأرض التواقة للحياة فأحيلها الى مروج خضر.

عفيفة: أي زرع.. وأي بذار.!؟ فلقد ذهب الجميل، ولم يبقَ الا ما هو قبيح، ومنجل الأيام أراه جاداً في حصاد الرؤوس اليانعة، وقد آن أواننا، فلم المكابرة يا رجل.!؟. 

كفانا نكذب على أنفسنا يا أمين..!.

(مستاءً)

أمين: أرجوكِ.. لا تبالغي في تقريعي والايغال في جرح مشاعري يا عفيفة،

فلم أعتد الكذب، وأنتِ أكثر من يعرف عني ذلك.

عفيفة: كل ما في هيئتك يصدح بالكذب يا أمين، أتضحك على نفسك؟،

يبدو أن قاطرة الأيام قد ألقتك حُطاما من نافذة الإهمال كأي ثوبٕ بالِ، فجئت لترمم بقايا أيامك الهزيلة، وتغزل بلسانك الثرثار خيوط الأكاذيب الفارغة تلك التي اعتدناها منك أيام الزهو، ظناً أنها مازالت رائجة.

أمين: كفاكِ تقريعاً يا عفيفة، لماذا كل هذه القسوة وأنت تُلقينَ على رأسي أنواع البذاءات.!؟.

وما رميتني به أرى أن فيه ظلما كبيرا.

(هازئة متهكمة)

عفيفة: عن أي ظلم تتحدث.!؟.

وما لذي جاء بك الآن بعد كل تلك السنين التي تخفيت بها كأي فقمة طاب لها السبات تحت جبال الجليد. 

أمين: قلت لك أنها  الظروف.. صدقيني، وهي من حالت دون مجيئي يا عفيفة.

عفيفة: وما لذي تغير في الظروف، لتأتي بعد فوات الأوان!؟.

أمين: إنه الحنين الذي اجتاحني اليكِ كالطوفان يا عفيفة،  ولم تهِن علي العِشرَة.

عفيفة: لكنها هانت على الجميع ممن شربوا رحيق عمري وألقوني كأي علبة عصير فارغة على قارعة الطريق.

أمين:  لكن الامر مختلف معي تماما.

عفيفة: كلكم معشر الرجال من طينةٕ واحدة.

 أمين: إلا أنا.. 

عفيفة: وبماذا تختلف أنتَ عنهم..!؟.

أمين: لم يخطر في بالي يوما ان أتخلى عنكِ يا عفيفة، لولا الظروف القاهرة التي أجبرتني.

(تنتفض.. وكأن شيئاً  ما وخزها.. تتحدث بصوت موجوع.)

عفيفة: لكنك تخليت، لا تحاول أن تجمل صورتك يا أمين، كلكم تخلى.

وقد تناسيتم بل تنكرتم في لحظة.. كم سقيتكم من رحيق مشاعري، وأغدقتُ عليكم المال الذي كنت أجنيه بالتعب والسهر والعرق.

وكنتم جميعا ذئاباً مسعورة يسيل لعابكم طمعاً في افتراس جسدي الطري وتمزيقه بلا رحمة على فراش غزواتكم الماجنة، لكنني أقفلت عليكم الابواب والنوافذ، و كبحت لهاث نزواتكم، وخيبت أحلامكم المريضة، رغم أني كنت أعيش وسط بيئة تمتهن الرذيلة، لكنني عاهدت نفسي أن لا أكون كأي سلعةٕ رخيصة، وكانت تلك وصية أمي لي رحمها الله.

أتنكر ذلك يا أمين..!؟.

(يكتف يديه على صدره)

أمين: بل أشهد على طهارتكِ، وأقسمُ على ذلك بأغلظ الأيمان.

عفيفة: وعندما هبت رياح أخرى، نزعتم جلودكم، ولبستم جلوداً أخرى، وظهرتم بمظهر الملائكة، وبعضكم قصَرَ ثوبه، ومهر جبهته بسيماء مزيفة، وراح يجلدني بلسان العبد الزاهد الواعظ الذي استحال سوطاً لاهباً لا يرحم.

 نسي أنه كان قد هجر أهله ودينه واتخذني قبلة له. 

كان يؤدي نوافله وبعض من فروضه على ذيال مؤخرتي.

كلكم تخليتم.. لا تحاول أن تتقمص دور الحمل الوديع.. يا أمين.

(متسائلاً باستغراب)

أمين: أنا يا عفيفة..!؟.

عفيفة: نعم.. أنت يا أمين، ألستَ واحداً من تلك الشلة التي كانوا يتفاخرون بخدمتي، والتودد إليَ.؟. 

(أمين، بانكسار)

أمين: سامحكِ الله يا عفيفة.

(يحاول أمين متودداً استعطافها،  ومسك يدها، تسحبها بقوة، وتصرخ ناهرة..)

عفيفة: لا تلمسني يا هذا، ولا تتوهم أنك تستطيع أن تلحس عقلي بترهاتك الفارغة التي تفوح منها رائحة الكذب، ذاك زمن مضى حين كنت أصدق فيه كلامك المعسول.

(عفيفة بين فترة وأخرى تجلس متقرفصة وتشد رأسها بقوة بكلتي يديها)

عفيفة: يا الهي ..أي هوس هذا الذي يطرق على رأسي بمطارق الضجيج، يكاد رأسي ينفجر تحت دوي الطَرق المتوالِ.

كنت أظن أنك جئت لي بالأخبار منه يا أمين، ليته كان هنا ليربط رأسي.

أمين: أما زلتِ تعيشين على ذكراه يا عفيفة؟. 

لقد ابتلعه البحر وصار طعما لأسماك القرش. الى متى وأنت تنتظرين.!؟.

عفيفة: سيعود يوماً يا أمين، ليس من أجلِ أحد، بل من أجلي أنا.

أمين: إنكِ تحلمين يا عفيفة، ما زلتِ تعيشين في سراب الخيال.

الحقيقة الوحيدة التي يجب أن تعيها هو أنا، أنا الذي لابد أن تفكري به  جديا، لأنني أنا الحقيقة، وما عداي مجرد سراب.

( تشد على رأسها بقوة، تسحب ورقة لعب، تتأملها، ثم تمزقها بقرف وتلقي نثارها في الهواء تغلق عينيها لبعض الوقت.. تفتحهما.. لا تجد أثراً لأمين. تنظر بدهشة).

عفيفة: كان هنا قبل قليل، أظن ذلك. 

إن لم يكن هو فمن يكن إذاً.. يا ترى.!؟.

ليذهب الى الجحيم، ليذهبوا جميعاً فلا حاجة لي بهم. 

هذا الثعلب الماكر كان أكثرهم خبثاً،

جاء اليوم هازاً ذيله ظناً منه أنه مازال باستطاعته أن يخدعني.

ليذهب الى الجحيم..

(تردد عبارة «ليذهب الى الجحيم» وهي تتأمل إحدى أوراق اللعب)

عفيفة: ليتكَ اسطحبتني معك، لمَ تركتني أنازع أنياب العزلة؟ أستجدي لقمة عيشي من قمامات المترفين.

الحياة من دونك باتت سجناً كئيباً موصد الأبواب والنوافذ، وأيامي باهتة  لا معنى لها كمسرح بلا جمهور، كان الأولى أن تأخذني معك.

(يدخل شخص ملتحي، بوجه عبوس، وثوب قصير وسروال، وخفين، يقف على مسافة عنها وهو يهز بسوطه، يؤشر لها بأسلوب الآمر الناهي بأن تنهض،  تنظر اليه بفزع واندهاش.).

عفيفة: مَن.. عبدالشكور..!!؟.

(يطلق ضحكة تشفي صاخبة).

عبدالشكور: هه.. كم كنت أنتظر هذه اللحظة.. يا عفيفة.

عفيفة: تنتظر ماذا يا عبدالشكور.!؟.

عبدالشكور: لطالما تمنيتها، وها هي قد تحققت.

عفيفة: ما الذي تحقق من أحلامك أيها المارق النكور؟.

أفتحت لك باراً على ضفاف النهر..؟.

أم شيدت ملهاً ليلياً يستقطب غانيات الليل وبائعات الهوى؟. وكبار التجار والميسورين.

 أليست تلك أحلامك التي لطالما  كنت تصدع بها رؤوسنا طوال سنوات التسكع التي قضيتها راكعاً ذليلاً عند قدميّ، تلتقط الفتات من بقايا موائدي.

 أنسيت.. كل ذلك.. يا عبدالشكور؟.

(يواصل الضحك..)

عفيفة: ما لذي تحقق من أحلامك وهذا الفرح الذي يعتريك.؟.

(بتشفي.. ونظرات ضاحكة)

عبدالشكور: أن أراكِ بهذهِ الهيئةِ، وهذهِ الحال.. يا عفيفة.

عفيفة: وما الحال الذي صرت أنتَ عليه لتشمت بي.. يا عبد.. النكور.؟.

عبدالشكور: الحال الذي أنا عليه الآن مختلفٌ تماما، والوعود تنهال على رؤوسنا كالمطر.. يا عفيفة.

عفيفة: وعود ..! أية وعود.!؟، وعود عرقوب وقد شبعنا منها..؟.

( عفيفة ..بنوع من الاستخفاف).

عفيفة:   ولكن احترس يا عبد ال.. شكور.. أخشى أن تغرق في وحل الوعود،  ولا تجد من ينتشلك منها. 

(يواصل الضحك)

عفيفة: والآن.. قل لي: 

ما الذي جاء بك لترقص فرحاً وتشفياً على جراحي الغائرة يا عبدالشكور.!؟. هل جئت لترد الجميل؟، أم  بدر مني ما أغاضك.؟.

عبدالشكور: ما جئتُ بهِ أمراً محدداً يا عفيفة.

عفيفة: وما هو يا عبدالشكور .!؟.

عبد الشكور : هو.. أني أرى لزاماً عليكِ أن تتطهري  من أدرانكِ، وتغتسلي من ماضيكِ الحافل بالنجاسات والرذيلة يا عفيفة.

( مندهشة..! تهتف).

عفيفة: أ.. ها.. هكذا إذاً. 

ألم تكن أنتَ يا عبد.. الشكور جزءاً من ذلك الماضي الذي صرت اليوم تعيرني به.!؟.

أتذكر يا.. عبدالشكور كم مرة تقيأتَ وتبولت على ثيابك وقد ذهب بعقلك 

الشراب.؟، 

وكم مرة وجدوك ممدداً في باحة المباول؟، وجاءوا بكَ الى بيتي ورائحتك تُزكم الأنوف، فتولى تنظيفك وتعطيرك أحد الشباب،  وبأمري وفي حمامي الخاص.

أتذكر ذلك يا عبدالشكور.؟

من كان يقبل يديَّ ورجليَّ كي أتكرم عليه بكأسٍ من الشراب؟.

أليس أنتَ يا.. عبدالشكور؟.

الآن.. وقد صرتَ واعظاً تقيم الحد على الآخرين. 

كان الاولى أن تتطهر أنت من أدرانكَ يا عبدالشكور  قبل أن تلبس عمامة الدين، وتجعل من نفسكَ واعظاً تتحكم برقاب الناس، وتختار لهم الكيفية التي يجب ان يعيشوا بها.

(يهز سوطه ملوحاً، وبصوت عالٍ..  يقول متوعداً.).

عبدالشكور: اسمعِ  يا عفيفة.. 

قسماً..عَظَمإً .. إن لم تغتسلي بماء التوبة، وتلتزمي بما يصدر عنا من فتاوى، فسأقيم عليكِ الحَد، وسأجلدُكِ بسوطي هذا ثمانون جلدة، أفهمتِ.؟.

(تتسع عيناها، وتفغر فاها، وتنظر اليه مستغربة.).

عفيفة: ما يصدر عنكَ.. أنتَ.. يا.. عبدالشكور..!!!؟.

من تكون أنتَ لتُلزِم الناس بما لا يُلزمهم.!؟. وتقيم عليهم الحدود.

(يشير بسبابته محذراً)

عبد الشكور: حذارِ أن تتجاوزي حدودكِ يا عفيفة. 

ما عليكِ الا طاعة وليِّ الأمر. وإلا..

قسماً.. عظماً.. لو لم يكن بيننا بعض الذكريات لأقمتُ عليكِ الحَد، ولجلدتكِ مائةَ جلدة، بالتمامِ والكمال، ولأشهدتُ على عذابكِ طائفةٌ من المؤمنين.

(بتهكم، تنحني هزءً واستخفافا.)

عفيفة: مَهلإً.. مَهلإً.. يا أمير المؤمنين، السمعُ والطاعة.. السمعُ والطاعة.. لم أكن أعلمُ بأنك الحاكم بأمره.

(ينتفض معترضاً.).

عبدالشكور: كفاكِ يا امرأة،  لم أدعي ذلك.. ولا تقوليني مالم أقل.. لستُ أميراً للمؤمنين.

وهل مثلهُ يقاس بمثلي.!؟.

(تجلس القرفصاء وتعرض ظهرها له. وتقول مستخفة.) 

عفيفة:  طَهِرني.. يا عبدالشكور.. طَهِرني.

طهرني أرجوك.. أتوسلُ اليك، انزع جلدي الحرام  بسوطك المُقدس، وألبسني

ثوب الطُهرِ والعفاف أيُها المُبجل. 

طَهِرني.. يا.. عبدالشكور.

( تردد«. طهرني يا عبدالشكور» وهي تمسك بورقة لعب، تمزقها الى قِطعِ صغيرةٍ وتنثرها في أرجاء المسرح، مع تعالي ضحكاتها الهستيرية، وهي تُردد.)

عفيفة:  طهرني.. يا عبدالشكور.. طهرني.

( تنقلب فجأة..)

عفيفة: اذهب الى حيث الجحيم يا عبد الشكور، اذهب أنت وفتاواك المزيفة أيها المتلون، اذهب الى حيث الجحيم.

(فجأة تصفع خدها.. وتجهش بالبكاء).

عفيفة: ..رباه..!،

لقد هَزُلَت.. أيَ مُنحدرٍ انحدرنا؟، وأيَ مُنقلبٕ انقلبنا.. حتى صار عبد الشكور، وأبو دُجانه، وأبو دَلَف، وأبو قتابة.. ومن لفَّ لفهم، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر.

تعساً لحياة يُهمَش فيها البسطاء المسالمون، ويوَّلى فيها القتلة والمارقون وشُذاذِ الآفاقِ.. تباً لهم.

(تنثر شعرها وقد استحال أبيضاً كالثلج، تتلبسها الدهشة وكأنها لم تره منذ أمد، تشعر باليأس وهي تهز رأسها.)

عفيفة: يووو.. ه..!. 

العمر يجري كتيارٍ جامح، وقد نسينا أنفسنا في غمرة الأحداث، لم يبقَ من شجرة الأمل ما يستحق أن نتمسك به.

ما فائدة أن ألتقيهِ.. وأنا في آخرِ محطاتِ العُمر.؟.

(تفكر للحظات بخيال مرتبك، وتتلفت الى ما حولها تهتف بتصميم. )

عفيفة: أنا من يكتب سيناريو النهاية، أنا من يكتبها.

(تجري ذاهلة الى كل الاتجاهات، تبحث في الأرجاء عن القداحة، تجدها، تقدحها بيد مرتعشة محاولة احراق نفسها.

 فجأة.. ويدخل ذات الشخص الذي يتولى تشغيل الأجهزة، تحاول الهرب والتخفي  وهي تجري خائفة الى كل الأجاهات، يتمكن من الامساك  بها بكل قوة،  يربط يديها ورجليها الى السرير بواسطة  رباطات خاصة ،  ثم يعاود وضع التوصيلات  في رأسها ، ويشغل الجهاز لصعقها بجرعة أخرى.

           (ستار).

تعليقات

  1. شكرا لمؤوسسة فنون الثقافية العربية ولعميدها ا. وهاب السيد،وكادرها المتالق لتوثيقها نصي المسرحي (الراقصة).

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لحن الحنين/ نص لينا ناصر / لبنان ..................

من رواد الآرت نوڤو: ألفونس موتشا/ مقال للناقد محمد خصيف / المغرب ,,,,,,,,,,,,,,,,,,

رؤى .../ نص للكاتبة مها سلطان / مصر.............