آخر ماكتبت ... مسرحية (( أرواح جائحــــــــــــــة ))/ للبهي سعد هدابي / العراق ,,,,,,,,,,,,

 


آخر ماكتبت ... مسرحية (( أرواح جائحــــــــــــــة ))
( أكاد أجزم أن لا أثنين سيتفقان على قراءة واحدة لواقع يكتبني )
الشخصيات
وديــــــع
فـــــــواز
شبح الام
الدفــــــان
( بيئة العرض )
المسرح بتأثيثه المكاني ..ليس سوى فضاء مفتوح جغرافياً وبلا حدود عبر مناخ ضبابي ... ثلاثة ( أقفال ) كبيرة وبمختلف الأحجام بما يشير بالدلالة أنّها غُرفاً ..ولكل قُفل باب .. إضافة إلى مصباح صغير عند أعلى كل قُفل لتبدو الأشياء أكثر غرائبيّة وسط المناخ الضبابي وقد عُلق (معول ) عند باب قُفل ( فواز) بينما عُلقت ( قارورة) ماء من الفخار عند قُفل ( وديع ).. ومن أسفل باب ( الأم ) ينبعث بين حين وآخر دُخان خفيف طوال العرض .
يبدأ الخطاب ونحن نرى ( الأم ) بثياب الصلاة البيض وراحت تُمسك بمبخرة وتتحرّك كمثل شبح مع همهمات كلاميّة مبهمة تتصل بالأدعية و قد تحول المكانُ الى حيّز غائم .. وإنْ هي إلاّ لحظات حتى تُغادر ( الأم ) تجاه أحد الأقفال ..تفتح الباب ومن ثمَّ تختفي .
( يظهر فواز من داخل القفل الآخر وهو يجر حقيبة سفر على عجلات ويتحدث بانزعاج )
فواز : كفاك تهكماً ..كلما ضجرتُ بما أنا فيه .. تنبري أنت لتدعوني للنوم والانتظار وكأننا من
أصحاب الكهف... لقد اُتْخمنا بالنوم حدّ الخدر أيّها المغفّل.
( يظهر وديع من داخل القفل وهو يعاني من مرض ( باركنسون ) الشلل الرعاشي) ونراه يفرك بسبابته وبعنق معقوف وخطوات قصيرة وصعوبة في نطق
جملة وبشكل متصل وبيده ابرة وخيط وراح يرتق ثوبه
وديع : كيف ..أ.. كيف تسمح لنفسك أنْ.. أنْ تخاطبني بهذا الشكل ..؟
فواز : إنني اُخاطبُ الاسترخاء المريب فيك...لأني كلمّا تساءلت رحت تصفعني بما لا تعرف.
( يأتي الى الاسماع همهمات الأم فيتجه فواز الى باب غرفة الأم ويضرب عليها بقوة )
فواز : كفي عن هذه الهذيانات ... رأسي ستنفجر ...!!
وديع : دعها ... إنّها ... إنّها تصلّي من أجلنا حتى يأتي.
فواز : ( يصرخ ) يا إلهي ..متى تُدرك إنّه ما عاد يأتي ... إنّه مجرّد وهم .
وديع : وهم ...؟ يا لهذه الشياطين التي تسكن رأسك .!!
فواز : أين هو إذن ...؟ هل ابتلعته الشوارع التي خلت من أهلها وهو يجوب المدينة بلا خريطة
طريق ؟
وديع : لاتكن ....أ.... لاتكن سخيفاً الى هذا الحد ..!!
( يقوم فواز بربط اشرطة حذائه )
فواز : هل تخلّى عنا وهرب من مواجهة مانحن فيه حجْر ؟
وديع : أية أفكار سوداء تسكن رأسك ؟ ربما هو لم يأتْ لسببٍ آخر ...خارج كل التوقعات .
فواز : خارج كل التوقعات؟ ماذا يمكن أنْ يكون خارج كل التوقعات أيّها العبقري ..هل فقد الذاكرة
مثلاً وضلّ الدرب فلا يدري أين نحن ..؟ يا لها من مهزلة إذن ..!!
وديع : كفى ... كفى بالله عليك .
فواز : هل يُعاني هو الآخر من الحظر وصودر عند أول نقطة تفتيش ؟ تلك إذن مهزلة اُخرى!
وديع : أهدأ أرجوك ... ليس بوسعنا فعل أيَّ شيء الآن سوى الانتظار .
فواز : انتظار من .؟ العباد يتساقطون في الشوارع كطيور ذبيحة وليس بعيداً أن يكون هو الآخر
في عداد الموتى .
وديع : أخرس .... تعساً للشياطين التي تسكن رأسك .
( يأتي الى الأسماع مؤثر عربات وهي تمر .. فيندفع فواز ويرتقي أحد الاقفال )
وينظر ... ومن ثم يتحدث بارتباك
فواز : إنّها صــورة هوليودية بامتياز .. تماماً كأننا نعيش حرباً كونية ..أرتال من المصفّحات تعبر
الطرق الموحشة وهي محشوّة بالمسوخ ..ورائحة المبيدات تٌزكم الأنوف.. إنّهم يعفّرون كل
شيء.. الأرصفة .. وأعمدة النور ..والجثث التي تتناهشها الغربان .. إنّها صورة مرعبة من
صور الجحيم .
وديع : .. أرجوك اهدأ قليلا ... أنت تخيفني !!
( يقفز فواز من أعلى القفل ويتحدث بانفعال حاد )
فواز : كيف لي أن أهدأ وأنا اُعاني من رهاب الأماكن المغلقة ..؟! إنّها فوبيا تستنزف كل طاقتي فلا
أستطيع أنْ أستقر.. أنا اختنق ..
( يتناول فواز قارورة الفخار المثبتة عند قفل فواز فيكتشف أن لا ماء فيها فيقوم )
برميها على الارض فتتحطم ويتحدث منفعلا
فواز : لا ماء ..لا طعام.. لا هواء ... دهرٌ مضى ونحن نهجع في مستنقع هذا الجحيم .. والمشكلة
إنني لا أدري كيف وجدتٌ نفسي هنا .. لا أتذّكر ....هل تتذّكر أنت ؟
وديع : أنا .... أ..... أنا لا تُسعفني ذاكرتي.
( يندفع فواز الى باب غرفة اٌمه ويضرب عليها )
فواز : وأنتِ ... ألا تُسعفك ذاكرتك أيضا ؟!! ....... أجيبي بالله عليك ؟
وديع : دعها .... أنت تُفسد عليها تأملاتها .
( ينهار فواز عند باب أمه )
فواز : لكني أريد أن أعرف .
وديع : ماذا تريد أن تعرف ..؟
فواز : أريـد أنْ أعــرف كيف وصل بـي الحـال الى هذا المكان ..؟! كلَّ ما يمـكن أنْ أتذّكـره هي
اللحظة التي هبطتْ بي الطائرة وما رافق ذلك منْ إجراءات تعسفيّة .. صادروني عبر ممر طويـل الى ردهةٍ مغلـــقة ..لكم أخبرتهم وبإلحاح منْ أني رجـل أعمال ,وإنَّ بمعـيتي شحـنة
طازَجة من المعُقِمّات ...وأجهزة التنفس ...لكنّهم ما كانوا يسمعون .. هناك ...في ..أ.. ثم
يا إلهي ..
وديع : ما بك ..؟
فواز : ضباب كثيف يملأ رأسي ..أنا لا أتذّكر ما الذي حدث ليلتها ..وكيف أنتهى الحال بي الى هنا لقد خسرت الكثير ولا اُريد أن أخسر المزيد .
وديع: عليّنا والحالة هذه أنْ نعمل على استثمار ما يمكن أنْ يقــع في دائرة اهتمامنا الآن في هــذه
اللّحظة , لنعبر الأزمة حتى يأتي .
( ينفجر فواز ضاحكا وبسخرية مريرة )
فواز : وماذا يمكن أن نستثمر هنا في هذه اللحظة لكي نعبر الأزمــة أيّها العبقري ..؟ الهــواء
الفاسد ...؟ أمْ توسلات اُمّنا وهي تجلد نفســها في أن يأتي ..والمشكلة إنه ما عاد يأتي
وينبغي اُغادر هذا الجحيم أيّها الغبي .
( يتحدث وديع بانفعال )
وديع : وماذا يمكن أنْ يفعل رجل أعمال مثلك إنْ غادر هذا المكان غير أنْ يفتح جيوبه للربا لتغُّص
خزانتُه بأموالٍ سُحْت ...في مدينة لا يسكنها سوى الأشباح الآن ..؟!
فواز : وماذا يفعل روائي فاشل مثلك ينبغي أنْ يكون الاّن هناك عند خط المواجـهة لواقع يحتــضر
في الطرقات .. في المشافي .. في المقابر ليكتب بصدق لا أنْ ينزوي في المحاجر كالحريم
وديع : لست فاشلاً بالقدر الذي يشبع خيلاءَك .. إنَّ في رأسي يا هذا ...
( يصرخ فواز مقاطعا )
فواز : رأس محشوّة بكل ما هو متداول في المقاهي الرخيصة النتنة التي لطالما كنت أراك وأنت
ترتادها عبر الأزقة المنسية ومنذُ زمن بعـيد .. مقاه تزيّن جدرانها صور لأصحابِ اللّحى
الكثة وكأنّهم من بطون التاريخ وتتوسطهم صورة كبيرة لصاحب الفخامة جيفارا الحـالم
بالبطولة.. ذاك الذي لم يحصدْ من الدنيا غير صــورٍ تُباع له عند الأرصـــفة ... تماماً كمَثل
سلعة كاسدة ...فيتملكني الضَحِك .
وديع : وما كان يدعوك لتضحك ..؟
فواز : كيف لي ان لا أضحك وأنا أراك معلناً استسلامك بنشوة ..مع شِرذمة يحكمها الموْتى وتقرأ الشعر المسّلفن بالخدر .. وتحلم في أن تقود العالم من داخل مقهى لا يرتادها الا النسيان والدخان عبر الأزقة المنسية منذ دهور .
وديع : كفاك تهكماً أرجوك .
فواز : أزقةٌ لا تعرف الشمس طريقاً لها فلا تراها إلاّ وهي تتبادل الظلام.. وأنتم تقبعون فيها كمن
تقيمون العزاءات لأولئك الموْتى كل ليلة وتحلمون بالمدينة الفاضلة .. مدينة يحرسها الموْتى
وزبانية الجحيم وبجيوب فارغة .
وديع : أولئك الموْتى هم أكثر نبضاً بالحياة منك لو تعلم .
فواز : أمجنون أنت ؟.. إنّهم موتى أخذوا نصيبهم من التآكل والاندثار ..وأنتم تقيمون لهم النصب
والمراثي وتجلدون أنفسكم تحت أقدامهم حدَّ الأغماء .
وديع : إنهم موتىْ يحملون بذور خلودهم .. خزانات لم تُعلن عن إفلاسها بيوم من الأيام رغم تقادم
الزمن .. على العكـس منك أنت تماماً .. لست سوى خِـزانة ورق إن أفلستْ يوماً فســتجد نفسك مع المشردين والجياع .
( يضحك فواز بسخرية لاذعة ونراه وهو يستخرج من حقيبته علبة رغوة )
حلاقه ويدهن وجهه .. ويبدأ بعملية حلق وجهه
فواز : خِزانة الورق هذه تبّثُ الروح في عَصَب الحياة أيّها المغّفـل ... كل شاردة وواردة لا تمـرُّ
إلاَّ عبر هذه الخِزانة ومن المهْد إلى اللَّحْد .
وديع : أنت تبالغ كثيرا .!!
فواز :متى تُدركون أنَّ العالم ما عاد يحتاج إلى أساطير الأقدمين .. وليس بوسعه أن يتداول عمْلات
قديمة غير مغطّاة ذهباً .. ولارواج لها في الأسواق .. بل يحتاج إلى سيـول نقْـد من قلب هذه
الخـِـزانة ..ولتعلم أنَّ لا شيء يصمد أمـام جوائح الأزمنة غير خِزانة حُبلى بالمناعات .. إنه الورق ..ومن يملك المال يملك القرار.
وديع : لكنَّ الأمر معي باتَ مختلفاً ... ومنذ زمن بعيد .
فواز : لابد وأنْ يكون الأمر معك مختلفاً ما دمتَ واحداً من أولئك المعدمين ... وترّتق ثيابك من
خِزانتك القديمة مثل أي مشرّد على قارعة الطريق.. مشبّعاً بالبؤس والحرمان .
وديع : والله إن لرَتْقاً بائساً بثيابي لهو أشّدُ طُهراً مما أنت عليّه من هُجنة ..ولتعلم أبداً إن خِزانتي
كانت ولم تزلْ هنا في رأسي ... أتدري لمَ ؟ لأنَّ فيها أسراراً مقدسة تُشبه الى حد كبير
أسرار الأنبياء وهم يبّشرون بالنُذر .
( يصفق فواز )
فواز : الأنبياء لا يولدون من ثياب مرتقة خاوية لا جيـــوب فيها ... الأنبياء يولــدون من سماوات
الخزائن ..يأتون وهم يحملون البشارات , فيتّبعهم العابرون الى أحلامــــهم من أجل رغيف خبز وأنهار من خمر .. لا من أجل قصيدةِ شِعْر .
وديع : أيُ حِقد مضْمَر في قرارة روحك .!! أنت تسفّه كل معتقداتي .؟!
فواز : أخبرني إذنْ ما الذي تغيّر؟ المقاهـي هي ذاتها منذُ ألـف عام وأنتم مثلما أنتم .. تبحثـون عن
مصادفة في مدارج الرفوف القديمة , وتٌحلِّقون بأحلامكم كمثل الأطفال وهم يتعلّقون بخيــوط
طائراتهم الورقيّة ..حتى ناخــت بكم الدنيا كمثل جَمَل بَروك ومازلتم بذات الوجوه الكالــحة
وذات القهر وكأنّكم مومياءات انبعثتْ من رٌقادها .
وديع : مذْ وُلدْنا ..كان القهر ولم يزل متاعنا من هذه الدنيا .
فواز : متاعٌ لا يُشبع جُوعاً . ..التفتوا الى ما ورائكم ذات صحوةٍ ولوّ لمرّة واحدة ..واُراهن أنّكم
ستٌصدمون ..لأنّكم لنْ تجدوا صُعلوكاً واحداً يقتفي إثركم .. إلاّ منْ كان أعمى أو مجنـــوناً
لقد أنفّض الجميع منْ حولكم ومنذ زمن بعيد أيّها المغّفل .. فلا أحدَ يراكم إلاّ وأنتم في
المقاهي .. أو السجون ... أو الحانات الليلية تندبون حظّكم العاثر .
( يفرك وديع بسبابته وبارتباك )
وديع : أنت ... أ..... أنت تتجاوز كل حد .!!
فواز : النّاس على دين ملكوهم يا وديع ... إنّهم يتعّبدون الآن هناك في جيوب المترفين وأصحاب
السماحات ويقّدمون القرابين ذِمماً ..فلا تراهم إلاّ وهم يركضون لاهثين وراء كل سيف ورغيف ..لا خلف كلمات عقيمة ..المعادلة تغيّرت ألا تفهم ..؟
وديع : ربما كانت قد تغيّرت في رأسك العقيمة أنت فقط .
فواز : قانون اللعبة تغيّر أيّها الغبي وأنتم تغطّون في سُبات فكرة بالية أكل الزمان عليها وشــرب
هل اخترعتم مصلا ..؟
وديع : كفى ...!!
فواز : هل نفـذتم من أقطار السماوات وترجـّلتم من خيول بداوتكم على سطح قمر؟
وديع : كفى أرجوك .
فواز : هل برأتم من داء سوق عُكاظ وقوافي الشعْـــر لتٌدركوا أنَّ السيف ما عاد أصدق أنباءً من
الكتب؟ دهورٌ مرّت وأنتم تُبرون سيوفكم وتخطّـــــون بها الشعارات الكاذبة بدلاً من
أقلام تدوّنون فيها مواجعكم المتراكمة من النكسـات والرِدات والهزائم.
( يصرخ وديع وهو يمسك رأسه )
وديع : كفى .... أنت تصّدع رأسي ..!!
فواز : هل صنعتم حبّة أسبرين تزيل الصداع من رؤوسكم التي يسكنها أبالسة الشهوات .؟
( يتحدث وديع بحرقة ويعلو صوته )
وديع : وماذا كان يفعل ذاك الذي ترجّل منْ حصانه الحديدي قبل أنْ تطأ قدمـه على سطـح القـمر
وأنت تصفّق له بنشـــوة البلهاء ؟ هل كان يلعب الغولف في (هيروشيما) مثـلاً ..؟ أم كـان
يتزلّج على الجليد في ( ناكا زاكي ) إنّه الحـفيد الشــرعي للأب الروحي نوبل الذي يُمــسك
بجائزة السلام بيد .. ويُخفي خلف ظــهره يداً تقبــض على الديناميت ...هنيئاً لــكم عــرّاب
حكايتكم وأنتم تمضون في ركاب غفلتكم ..ولتعلم إنّه هو من كان يُخطط لحجْرنا نحن جميعاً
هنا... وهناك ...وفي مشارق الأرض ومغاربها ومنذ زمن بعيد.
( موسيقى من داخل رأس فواز )
فواز : نحن ..؟!
وديع : نحن الّذين يٌطلقون علينا جزافاً .. (الآكلون عديمو الفائدة ) .. انتهت حصتنا منَ الاُوكسجين
والماء والطعام ..ولسنا سوى وزن فائض على ظهر كوكبنا العجوز .. من الفقراء والمعاقين
وكبار السن.. في ظل نظام هيمنة الرجل الحديدي صاحب الخِزانة الأكــبر في البورصات
العالمية ..وما يحدث اليوم هو صورة هوليودية بامتياز منْ صور الجحيم ..أشَّـد فتكاً من
الحروب التي كانت توقَد وبصفة ايقاعية بين جارتين .. وأكثر سَخَطاً من التطعيمات لتحديد
النسل الآدمي بطريقة تخلو منْ كل مذاق آدمي .. وهو يركب موجة الغاية تبرر الوســيلة
للجيل الرابع منْ أسلحة الإنهاك والتآكل البطيء .
( يتحدث فواز بانفعال كمن يهرب من المواجهة )
فواز : كفى .. أنت تحفر في رأسي كل ما تُعانيه من هزائم .
وديع: متى تفيق رأسك التي قادتك الى هناك منهزما .
فواز : ومتى تفيق رأسك التي أبقتك هنا ..وقادتك الى موت محقق ونجوت بأعجوبة .
( يتحسس وديع رأسه كمن توقدت فيها ذكرى عالقة )
وديع : هذه الرأس هي خِزانتي من متاع الدنيا .إنّها خِزانةٌ لطالما أراد الجلاّدون يومها الوصول
الى مفاتيحها حين كنت أقبع في زنزانتي هناك وما نجحوا.
( ينحصر وديع داخل بقعة ضوئية يحيط بها ظلام حالك ويتحدث )
وديع كمن يعيش الحالة خارج مرض الشلل الرعاشي
وديع: زنزانةٌ لا تتسـع إلاّ لما يتناثر منْ جِراحك .. كل شــيء كان فيها رطباً .. ولزجاً .. تخيّل
أنفاسك وهي تعود اليك خائفة لتختبئ في رئتيك فيختلط الشهيق بالزفير ..هناك ..كل شيء
منك يلوذ فيك فمالك إلاّ أنت ..وترى أحلامك المصلوبة بين مقلـتيّك وهي تفتش عن ومضة ضوء.. رسمت بدمــي شمساً على الجـدار الى جانب أسمـاء وتواريخ لأناس بصموا على موتهم وغادرونا مبتسمــين .. كنت أسمعهم وأراهم كل ليلة واُناجيهم .. وحـدها المناجاة
كانت تكتبني شعراً فتستكين روحي التي لا يبرحها الأنين إلاّ حين تنام في أبدّية شقائها.
( يعود مناخ العرض كما كان ويعود وديع الى حالة الشلل )
وديع : تلك هي خزانتي .. كانت ولم تزل مثلما هي عصّية و عذراء على أعتى المفاتيح ..و أمينة
على ما كانت تدّخر مما كان متداولاً في المقاهي من أسرار .
( يصفق فواز وينفجر ضاحكا )
فواز : لولاي ما كنت لتنجو يومها أيّها العبقري ..لولاي لكنت الآن مجرد عظام بالية في قبر
مجهول وبلا شاخص ..أو مجرد بقايا من جُثة متفسخة تنهشها الغربان في الفلوات .
( ينفعل وديع وتسري ارتجافه في جسده وتزداد عملية الفرك بسبابته )
وديع : كفى أرجوك .. لا... أ.. لا أريد ان اتذكر .
فواز : لولاي لكانت هذه الرأس مجرد جمجمة يتقاذفها زبانية الجحيم بركْلات جزاء .
وديع : رفقاً بي ... أنت تجلدني .
فواز : كانت الرشوة يومها من خزانتي أنا .
( تزداد حالة وديع تأزما ويزداد الفرك بسبابته وحركة رأسه المعقوف )
وديع : كفَّ عن كل هذا .. أنا لا أحتمل .
فواز : يومها أوْدعت شيكاً على بياض في جيّب جلادك مقابل أنْ يتحول ملّفُك الى مســـتشفى
الأمراض العقلية .. لا لشيء إلاّ لتنجو من الموت .. وحمداً لله إنّك نجوّت ولكن بنصف
عافية .
( تتفاقم الارتجافة في جسد وديع ويمسك رأسه كمن يعاني من صعقات كهربائية )
وديع : كفى ... أنت تُحّطِم أعصابي .
فواز: كل ذلك من أجل خِزانة من أفكار بالية غير مُنتِجة ... لكنك لم تتعظ ْ بعد ...ما زلت بحاجة
الى صعْقات كهربائية فيما يبدو .. وجرع ترويض لا تنتهي .
( يصرخ وديع بقوة )
وديع : اللَّعنة عليك .. وعلى هذا الحجْر الذي جمعني بك ..حجْر كشف كل الاشياء على حقيقتها !!
( يتجه فواز الى باب غرفة أمه ويضرب عليها وينهار باكيا )
وديع : أ...أسمعتِ ... لقد جاء من أطراف الدنيا ليفتح جراحاً غائرة بالروح يا اُمي .. أسمــعتِ إنـّه
يشْمت بي يا اُمي ..أستحلفــك بالله ..إن كان لديك نُســــخة مفتاح منسي في عِصابة رأســك
هاتيها ..لأنّي أنا من سيُغادر..لا اُريد أنْ أبقى هنا ..قسـماً إن لجائحةً هناك لا صـلة دم بيني
وبينها لهيَ أرحم من هذا النصف آدمي ..اُريد اُغادر موتي هنا لأعانق موتاً آخر أكثر كرامة ..هات يديك يا اُمي ..ضميني بين ثنايا روحك ..دعيني ألتحف بعباءتك .. أنا خائف يا اُمي.. أعرف إنّك تهزأين من نزقنا.. وإنَّ محرابك هو أطـهر من أن يفتح باباً لكل هـــذا الدَنَس ...اُمـي ..حين يأتي أخبريه ..إنَّ كل ارتعاشة في جسدي المنهك كانت تنتظره وتتوق
اليه ...وإنَّ كل نبض في مساماتي كان يتعّبد بمحرابه .
( يطلق وديع صرخة حادة يرتدد صداها )
وديع: أخبريه يا اُمي .... إن قميصي قُد من دُبر .!!
( يحل الصمت )
فواز : أنت كما أنت ..مذْ كنا صغاراً وأنت كما أنت ... أتذّكر عندما كنا نختبئ هنا بيــن أكياس
القمح في هذا المكان هرباً من أبينا وهو يلوح بعصاه ..كنتَ تبكي مرتجفاً مثلما أنت عليه
الآن ..كنت انهزامياً الى الحد الذي كنت فيه تتنكر بهيئة كيس وتجمد كمثل فأر مذعــــور
وتبكي بهدوء ..أما أنا فكنت أضحك منك عليك ..وكثيراً ماكنت اُجْلَد أولاً لأني لا اُجيد فن
الاختباء.. مما جعل أبي يكرهني دونك أنت ... أتعرف لماذا .؟ لأنه يحب الاستسلام فيك
ويطرب لنُواحك قبل أن ينام ... فعندما يبكي المهرج ذات غفلة يوقد السلطان سوطاً وينام
لقد أدمنتَ الامتهان طوال حياتك أيها الوديع .
( يزحف وديع الى باب القفل الخاص به ويدخل متقرفصا )
وديع : هنا في هذا المكان ... كنت قد كرهت يومها أنْ تكون أخاً لي .
فواز : ومتى كنت قد أحببت في أنْ أكون أخاً لك ..؟
وديع : لا أتذكر .
فواز : لماذا ..؟
وديع : لأنك لم تكن على شبهٍ مني يوما .
فواز : وهل كنت أنت على شبهٍ مني يوما..؟
وديع : لا .
فواز : بالتأكيد ..لأني لا أشبه إلاّ نفسي أيّها الوديع ...لكني اُحب أن أرى الآخر يشبهني .
وديع : لستُ ذاك الآخر أبداً لنْ أكون .. أنا .. أنا ..أنا باقٍ مثلما كنت ... هكذا علمني أبي .. (كن
مثلما أنت .. يراك الآخرُ كما أنت ) ..
( يقفز فواز فوق القفل الخاص بوديع ويمتطيه كحصان )
فواز : عن أيّ أبٍ تتحدث ..ذاك الذي غادرنا بِلا رجعة بعد أنْ أقفلَ علينا الباب ومضى بعيداً
دون أنْ يلتفت ؟ ..ذاك الذي أسرجَ حصانه وفّر هارباً مما نحن فيه وما عاد يأتي .
( يتحول سلوك وديع مثل طفل ويغادر القفل وهو يحبو )
وديع : حتماً سيأتي ..أكادُ أسمع وقعَ خُطاه ..أنه يُمسك بالمسافات التي تقــوده اليّنا.. وسيأتي محملاً
بالحلوى ..وجيوب مترعة بالفرح ويحْملُني على كتفيّه كالإسفنجة ..ويعلّمني أولى الخطوات
وتأتأة أول حرف من اسمه .
فواز : تأكد حتى أبانا هو الآخر ما كان يُدرك أسرار اللعبة .. تماماً مثلك أنت ..لذا بقي مثلما هو
تاجر خُردة في دكان قديمة ورثها عن أبيه حتى صار يغرق بكل ما هو عتيق .
وديع : يا إلهي ..!!! أنت عاق بكل شيء .
فواز: أبٌ قطع العمر وهو يحلم في أنْ يعثر على تُحفة نادرة من بين أطنان الخردوات التي كان يبتاعها علّها تعدل بقيمتها أضعاف ما كان يشتريه ..ولمْ يحصدْ إلاً الخيبة ..لأنّه كان يركب
موجة المصادفة ... تماماً مثل صيّاد يحلم في أنْ تعلق بسنارته سمكة لعّل في جوفها خاتم
ماس ...لذا لا أراه سيـأتي أبداً ... أنت كمنْ يراهن على حصانٍ أعرج .
وديع : فقط فكر في أنّه يمكن أنْ يأتي ... وستربح اللحظة .
فواز : لطالما أوّهمتُ نفسي وما نجحت ... إنّها تجارة غير ربحية .
وديع : غير ربحية ....؟ يا له من منطق غريب ...!
فواز: لقد علمّتني الدنيا أنْ لا أنظر اليها من ثقب باب موصد لأربح اللحظة .
وديع : اليس في اُفق تفكيرك كلمة أخّفَ وقعاً وأكثر لياقة من كلمة ربح .؟
فواز : لياقة .؟ هذه الكلمة لا يوجد لها أي ّمعنى في قاموس أبجدياتي ..أتعرف لمَ ..؟ لأن الربح
الحقيقي يحتاج الى منازلة حيّة وفاعلة ....وقد تبدو منازلة دامية أحياناً .. أنا رجل عملي
بامتياز خلاف ما تبدو عليّه أنت من استسلام في هذا المكان المنسي .
وديع : كل شيء من حولك كان لك فيه صلة ذات يوم ... ألست أبنا لهذه العائلة . ؟
فواز : إنّها صِلةٌ لا يتجلّى منها سوى صورة غائمة من داخل ذاكرة صدِأة لعائلة منسيّة منذُ دهور غادرتها ولسنوات .. أنت تقبع في المقهى القديم المتهالك محاطاً بالمعدمين وذوي الأفكار
الســوداء.. وهو يهجع بدكانه الخَـرِبة وسط السوق ويُحيط به المتسولون والمشرّدون من
كل حدْب وصوّب.. وأمُّ لا تعرف من الدنيا غير اتجاه قبلة في جدار غرفتها وتسجد شاكرة
ليل نهار فلا أحد يستطيع أن يحصي عدد رَكْعاتها ولا حتى أحــدث الحـاسبات ..وكنت أنا
أشقى بين كل هذا المخاض ..واُعاني غربة اللاّانتماء .
وديع : يا إلهي ... ألا تكفَّ عن كل هذا الجنون .؟
فواز:يومها شعرت إنَّ دُكان أبي قد تحوّلت هي الأخرى الى زنزانةٍ أيّها العبقري .
وديع : دُكان أبينا..؟!
فواز : كثيراً ماكنت أهجع في دكانه المنسيّة من وجه الدنيا ...وأنظر لما هو حولــي بعين يتيم
يومها كان حلمي أنْ اُغادر يُتم مكانتي وأنْ أتسلّق وجاهة منْ شأنها أنْ تنتشلني منْ كل
ما أنا فيه منْ بؤس .. لــكم تخيّلتُ أنْ أكون مجرّد صورة مستنسخة منْ صــور أولئك
المتسوّلين إنْ حدث ومات أبي فجأة .
( يتجه وديع الى باب القفل الخاص بغرفته ويدخل ويغلقه عليه )
وديع : ليس أمامي إلاّ أن أهجع بعيداً عن هذا الجنون .
( تسلط بقوة ضوء على فواز جانبا وينسلخ من صلته بوديع )
فواز: وكان عليّ أن اُحرّك ساكناً ..فقررت أنْ اُجرّب كل شيء ..وعلى مقربة من مخافاتي رأيّت
العباد وهم يتقاطرون إلى مسجدٍ عتيق بوجوههم المصفرّة .. إنّه المســجد الذي كان أبي
يحرص في أنْ يكون أول من يحضر فيه .. كل شيء كان فيه عتيقاً كدكان أبي ..دنَوْت من
المسجد زحْفاً كمَثل سُلحفاة وأنا أرسُم على محيّاي مُسحة لا تكاد أنْ تستقر من ورع زائـف
حتى وجدتني وقد حشرت نفسي بين المصلين حشراً ...لكم كنت أحرص أنْ يراني أبي ...
لكنه لمْ يرني .. كان غارقاً بتأملاته وبخاطر نبي ..آه ... لكم أرهقني يومها القيــام والقعود
والنظر الى مِرْوحة في سقف المسجد بين كل رَكعتين ..وإنْ هي إلاّ بُرْهة حتى ضـجّت
مسامعي بهدير عارم ومباغت من الأدعية .. فدعوْت.. تباكوا فتباكيّت ... الكل كان يجلد نفسه وكأنّهم يعيشون آخر يوم من أيام الدنيا.. كانوا يحتزمون بأكفانهم.. راعني ما رأيت
فغادرت المسجد مرتجفاً ..وعدت أدراجي بخفي حنيّن ..
( يضحك فواز بشيء من اللوعة )
فواز: يومها ختم خوفي على طريق المسجد بالشمع الأحمر..ثم قفلتُ راجعاً الى البيّت وفي طريق
عودتي لفت انتباهي عباد بذات الوجوه المصفرّة وهم يتقاطرون على خمّارة تقع في شارع لطالما وبّخني أبي أنْ أسلكه في طريق عودتي لكني مع ذلك دخلت ..حشرت نفسي مع عباد كانوا يجلدون أنفسهم بالغناء.. لم يكن غناء أبداً ..بدا لي مثل نعي في جنازة.. فجأة هبطت
على رأسي صاعقة كادت أنْ تُفقدني واعيتي وأنا أرى مالم أتوقع .... أتدري ما رأيــت.؟؟ لقد رأيت أبي وهو يترنح راقصاً ويغني أمان يا ليل ..
( يغني فواز ومن ثم يغرق فواز بالضحك الهستيري ويغادر بقعة الضوء فيعود )
مناخ العرض الى طبيعته ويفتح وديع الباب ويصرخ به
وديع : كذب .
فواز : هو منْ كان يكذب علينا أيها المغفّل .
وديع : مستحيل .!!
فواز : هو منْ كانت جيوبُه محشوّة بالأقنعة .. ويُجيد فنَّ الغش والاختفاء .
وديع : اُسكت .!!
فواز : هو منْ حوّل حياتي إلى دكان خردوات ... ليس هو فحسب ...كلكم تشتركون في ذلك هو
وهي ... وأنت .
وديع : أنا .؟
فواز : نعم أنت أيضاً شاركت في شقائي .. أتذكّر ليلتها عندما غادرت الخمّارة وأنا في طريق
عودتي هارباً ..كنت اُســابق ظلّي لأعــود فأحجر على نفــسي هنا في هذا المــكان من هول
الصدمة ..ليلتها مررت بمقهاك الأزلي فرأيتك .
وديع : أضغاث أحلام .. أنت حتما تعاني منْ حالة ذهان .
( يتحدث فواز بمعزل عن وديع وكأنه مصادر )
فواز : لكم كنتُ أوّد أنْ أحتمي بك .. أنْ أبكي على صدرك وأنتَ محاط بأولئك الغارقــــين بثمالة
خيالاتهم.. جلستُ مثل صنم أصم ..لمْ أفهم بأيّة لغة كنتم تتحدثـون شعرت أنّكم كنتم كمن تتآمرون على أنفسكم ..وكان الجميع يصّفق مسعوراً لثرثرتك النيّئة الماصخة ...شعرت بالغثيان و كــــدت أن أتقيأ .. بحثت عني في وجوهــكم فلم أجــد لي أثراً ..حملـت نفسي
وقررت أن لا أعود الى بيت يجمعني بكم ..( يصرخ ) لقد خذلتموني جميعاً ...ليلتها لم يكن
أمامي سوى أنْ أهرب بعيداً ..
وديع : تهرب دائماً .... لأنك انهزامي ..!!
( يحمل فواز حقيبته على ظهره )
فواز: ليس سوى عبّارة كانت تقّل حشود الهاربين وهي تقف على مقربة من خوفي ..مع مهرّب
يحدو بقافلة لا يتوانى لحظة في أن ْيبيعها في عرض البحر ..أو يُلقي بك في صخب عاصفة
إنْ شعر أنّك مجرّد وزن فائض .. صرخ بصوته الأجّش .. ألقوا بكل أمتعتكم ...
( يلقي فواز بالحقيبة بجزع محاكاة لما مر به )
فواز: فألقى كل ذي متاع متاعه .. ثم صرخ بعد حين .. انزعوا عنكم كل ثياب .. لا أحد تردد
لحظة في أنْ ينزع ثيابه ..
( يقوم فواز بنزع بعض ثيابه )
فواز: عراة صرنا كما ولدتنا اُمّهاتنا ..نساء وشيوخ وأطفال ..صرنا نغمض العيون خجلاً مما كنا
فيه .. ونحلم بشبر من اليابسة وبأية جزيرة حتى وإن كانت في جهنّم لنواري سوأتنا.
( يبكي وديع .. وبذات الوقت يأتي إلى الأسماع همهمات الأم بالدعاء .. فيصرخ )
فواز ... ويقترب من الباب
فواز : كفى هروباً ... مُدّي أثدائك وامنحينا طفولتنا المستلبة مرة اُخرى .. ترنّمي بأهازيج الأمّهات
وهن ينثرن حليبهّن على المهود وينسجن الحكايات ... كفاك انهزاما .
( يندفع وديع الى باب غرفة والدته ويطرق بقوة )
وديع : أسمعتِ ؟ افتحي بابك على مصراعيّها وقولي كلمة واحدة تُلجم فم هذا الشيطان الذي يغّص
بالافتراء بدلاً منْ هذا الإختفاء .. أمسكي بيدك ذات العصا وطاردينا لنكّف عن كل هذه
الهذيانات التي لا حدود لها ... طاردينا لنعود أطفالاً لانعرف غير طريق الاختباء تحت
أسرّتنا .
( يطرق كلاهما على الباب ..لا رد ... يحل الصمت ... يبتعدان عن باب غرفة الأم )
وهما يعيشان حالة من الانكسار والخيبة
فواز : دعها .... فهي تعرف كل شيء ... ومذبوحة بكل شيء ومنذُ زمن بعيد .. لذا لا تراها إلاّ
وهي تهرس نفسها بالدعاء وتحلم بالفردوس في مخبئها الأزلي بعيداً عنّا.. حتى أنّها
غادرتنا إلى الحد الذي تخلّت فيه عن اُمومتها فما عادت تسمعنا .
وديع : غادرتنا لأننا خذلنا كل قطرة حليب منها .
فواز : أما زلت بحاجة ماسة الى اُم أيّها الوديع .؟
وديع : طفولتي لم تزلْ جائعة .. كل شيء بي مازال يحبو ..وأنت ..؟
فواز : أنا ... لا أدري .
وديع : كل شيء فيك يدري أنك لا تدري ..على العكس مني تماماً ,عشرات الرسائل كانت المسكينة
تبعث لك لتأتي من أجل أن تراك قبل أن تتوارى خلف بابها الموصد لكنّك كنّت عاقاً بها لقد منحتك الغربة فراغات مجّانية في مشاعرك لا حدود لها ..وأكلتْ الأيّام من جُرفك
كثيراً فما عدتُ أعرفك .
فواز : لأنّك غبي أيّها الوديع ...ولا تريد أن تعرف ... كل شيء فيك يقتات على المهدءات .. لستَ
سوى عُطْل تفوح منه رائحة الخدر ..فمتَّ قبل أوانك .. وتفسّخت أحلام صباك .. لكم كنّت
أظنّك مختلفاً عن أبيك بشيء بعد أن غادرتك لسنوات لكن أتضّح لي الآن إنّك لست سوى
نسخة مشوهة منه ..ولست متحرراً منه بما يكفي لتُدرك الحقيقة .
( ينتفض وديع )
وديع : أخرس .. يا إلهي ..أي بوْح سافل هذا ... بل أي حجْر بغيض فجّر في قرارة نفسك كل
هذه البراكين !!
فواز : هذا ليس بوْحاً ... إنّها رغْوة طفحت للسطح عما كان مضمراً من ازدواجيه آسنة كانت ولم
تزل تمزق روحي .
( يتجه فواز الى المعول المعلق على الجدار وينتزعه وسط حالة )
الاستغراب التي يعيشها وديع
وديع : ماذا تفعل ...؟ أهدأ أرجوك ..!!!
فواز : كيف لي أنْ أهدأ ..إنّها فكرة عقيمة تجلدني فلم أعدْ اُطيق ..إنَّ لي مسؤوليات جسيمة وبقائي هنا يعني خسارات لا حدود لها .. والأنكى منْ كل هذا إننا مقطوعون عن العالم .. لا إشارات في هواتفنا اللعينة ..لا أحد يعرف أننا هنا غير أبٍ بصقنا في هذا الجحيم وتوارى بعيداً ولابد
من طريقة لمغادرة ما أنا فيه .
(يتحدث وديع بهدوء وحزن )
وديع : هل أدركتَ الآن جسامة الاقامات الجبرية كأجراء إقصائي تجاه الخصوم .. هل أدركتَ
الآن صبر النساء وهن يقرْن في بيوتهن من دون تذمّر؟ هل أدركتَ الآن لماذا كان استهداف
الحريّة من أولويات القوانين الوضعيّة عقوبة للبشر ؟ هل أدركتَ الآن إنَّ نعمة الحريّة هي
بلا أدنى شك أهمُّ وأشهى رغيفٍ في مائدة الرَّب .؟
( ينتفض فواز )
فواز: لهذا ينبغي أنْ اُغادر وبأيِّ ثمن !!
وديع : تغادر .. وبأيِّ ثمن ؟
فواز : نعم اُغادر ... ألديّك اعتراض ..؟
وديع: أنا لا أعترض .. أنا ما خُلقت أساساً لأعترض .. بيد أني أتساءل .
فواز : وأنا ما خُلقت إلاّ لأتمرّد ... وشتان أن تجمعنا أرض ولا سماء .
وديع : ألا تخشى الموْت ؟
فواز : أنا والموْت في خصام دائم يا هذا .!!
وديع : الوباء وصل ذروته وصار يفتك بالخلق كالنار في الهشيم .
فواز : وباء روحك أشّدُ فتكاً منه .
وديع: خطوة واحدة خارج هذا المكان وستجد نفسك حتماً من الهالكين .
فواز : إنَّ خطوة تجاه محاولة حتى وإنْ كانت فاشلة لهيَ أكثر جدوى منْ هذا الحجْر .
( يتجه فواز وهو يحمل المعول الى باب قفل أمه )
وديع : ماذا تفعل ..؟
فواز : ليس بعيداً أنْ يكون بمعيتها نسخة مفتاح ...فهي تدخر كل شيء في غرفتها مذ خلقْنا.. كل
شيء يقبع خلف هذه الباب اللعينة .
وديع : أجننت ..؟!!
فواز : ما منْ محاولة ناجحة وبامتياز إلاّ وكان دافعها الجنون .
( يندفع فواز تجاه الباب وهو يروم تحطيمه بالمعول فيعترضه وديع )
وديع : توّقف بالله عليك .!!
فواز : لن أتوّقف .
وديع : هبْ أنَّ نسخة من المفتاح بمعيتي أنا ..؟
فواز : ماذا ..؟
وديع : أظن أنَّ كلامي واضحا .
فواز : حسنا .... فهمت ... قبلت المساومة .
( يستخرج فواز من جيبه دفتر شيكات ويقتطع شيكا ويشهره)
أمام وديع
فواز : هذا شيك على بياض ... اُكتب أيَّ رقم تريد شرط أنْ أحصل على المفتاح .
وديع : ليس قبل أن تجيب على سؤال واحد فقط .
فواز : كفاك عبثاً بأعصابي ..سأضع الشيك في جيبك وبالمقابل ضع أنت المفتاح في يدي لأغادر
هذا المكان اللعين ...هيا إستثمر الصفقة ودعني اُغادر .
وديع : لكني أخاف عليك ... كل الطرق تؤدي بك الى قبر لا محال .
( يندفع فواز ويمسك بخناق وديع )
فواز : لا تزايد على أمر صار مفروغاً منه في رأسي ... مفتاح حقير مقابل أي مبلغ تريد .!!
قل لي أين مكان المفتاح ..هيا ؟
وديع : هل أنت مصر على ذلك ..؟
فواز : ولن أتراجع ... هيا أخبرني أين المفتاح .
وديع : إنّه .... إنّه أقرب اليك من حبل الوريد لو تعلم .
فواز : ماذا ؟... لم أفهم .!!
وديع : هات يدك ... وتلمّس رأسي وستجده .
( يقوم فواز بدفع وديع ليسقط ارضا )
فواز : أنت تسخر مني أيّها الوغد !!
وديع : صدقني ..أنا لا أسخر منك ..إنَّ في رأسي خِزانة أكثر ثراءً من خزانتك كرجل أعمال وفيها
مفاتيح لكل المغاليق .
فواز : أنت تقودني للجنون .!!
وديع : فقط أغمض عينيك ... أ.. نعم ... أغمضهما وانظر الى داخل نفسك وستراه ..
فواز : لطالما نظرت داخل نفسي وأنا اُحرق أيامي بعود ثقاب في هذا الحجر اللاّإرادي ..لم
أر الاّ ما هو مخيف .. !!
وديع : لو أنك هدأت قليلا ..و أ... وأطلقت العنان لروحك أنْ .. أنْ تسافر بعيداً عن سجنك الداخلي
ستجد نفسك ..أ.. حتما ستجد نفسك وأنت تسبح في ملكوت ما تدّخر من ذكريات ..وأحلام وأفكار .
فواز : أية أفكار ونحن نقبع في مغاور ثقب معتم تحت الأرض تماماً كالديدان وهي تسبت شتاء.
وديع : ليس أمامنا سوى الانتظار.
( ينتفض فواز ويدور حول وديع وبيده المعول )
فواز : لكم أكره فكرة الانتظار هذه .
( يحل الصمت .. يتحدث فواز كمن توقدت فكرة في رأسه )
فواز : الآن أدركت كيف تم استدراجي من آخر الدنيا الى هذا المكان .. إنّه أنت .!!
وديع : أنا .؟
فواز : نعم أنت.. أنت وبكل ما تبدو عليه من عجز ظاهر كنت قد استدعيتني عبر رأسك الملغّمة
بالكوابيس.
وديع : يا إلهي ... ماذا تقول ..؟ أمجنون أنت ..؟
فواز: بل أنا على يقين أيّها الوديع ..ألا يكفي أنّك كنت نزيلاً في المصح؟ أنظر حولك .. كل شيء
غائم وبلا أبعاد .. كل شيء عائم وضبابي .. وأنا وأنت فقط وبلا ذاكرة ..ماذا يعني هذا ..؟
يعني إننا في جحيم كابوس ومن داخل رأسك أنت .. ويجب أن أنسف هذه الرأس .
( موسيقى من داخل رأس وديع ويمسك رأسه )
وديع: إنْ كان الأمر كذلك فلن اُسامح نفسي أبدا .
فواز : اركع أيها الوديع ... اركع وصلْ على نفسك صلاة الوحشة ... لقد آن الأوان أن نفترق
( يركع وديع )
وديع : أليس من طريقة أخرى أكثر سلاما لنفترق حفاظاً على سمعة أبينا ..؟
فواز : تأكد أنَّ لا طريقة اُخرى .
وديع : رفقاً بي إذن ..اُريدها ضربة واحدة .. ضربة بلا ألم ... أجهز قبل فوات الفرصة لأني أنا الآخر اُريد أنْ أفيق من كابوس يجمعني بك .
فواز : اطمئن ..فيما يبدو إنَّ نصل هذا المعول كفيل بأنْ يطيح بأعتى رأس وبلمح البصر ..وليس
من عادتي أن اُخطئ هدفا .
وديع : إنني أشعر بذنب كبير .. ولن اُسامح نفسي أبداً ما دمت سبباً بشقائك ..هيا عجّل في هلاكي
وإيّاك أنْ تتراجع ... لأنك إنْ تراجعت فسيكون المعول بيدي .. عندها لن أرحمك أبدا .
( يضحك فواز بهستيريا )
فواز: رائع أيها الوديع ... أعدك إنّها ستكون ضربة واحدة ... وسأقــــول في التحقيق ...لقد قتلتك
دفاعاً عن فكرة أنْ أتحرر من كابوسك اللعين لأفيق .. أظنُّ أنّها تهمة مشروعة .. وبشيــك
على بياض ..تقــــيّد الجريمة ضد مجهول ..تماماً مثل أول جريمة بالتاريخ ..تلك الجريمة التي لم يدخل مرتكبها الســجن ولم يُصلبْ .. ولو أنه صُلب لمـــا كنّا أبناؤه الشرعـــيون
فأذن ما الغريب في أن نعيد الحكاية من جديد مادامت جيناته تلاحق أصلابنا منذ دهور ..من
يدري ..ربما يكون هو الآخر قد دفع من الشيكات ما جعل جريمته الاٌولى تُقيّد ضد مجهول
سامحني أيها الوديع ....لقد آن الأوان أن أتحرر منك .
( يشهر فواز المعول عاليا )
فواز : يجب أن أتحرر منك أيها الوديع .!!
( يهوي فواز بالمعول على رأس وديع فتجمد حركته قبل أن يلامس المعول رأس وديع) وهو يسمع مؤثر سلاسل من خارج المكان مع مؤثر فتح باب ونسمع بعض بكاء من بعيد ينبعث الدخان أكثر من غرفة الأم ...وان هي الا لحظات حتى نشاهد دفانا وهو
يدفع يقفل جديد وهو يرتدي بدلة وقاية بيضاء وكمامة وسط ذهول فواز ووديع يقوم الدفان بركن القفل الجديد الى جانب قفل الأم ويصلي للحظات دون أن يراهم ولا حتى أن يشعر بهم .. فينبعث دخان من القفل الجديد فيسقط المعول من يد فواز .. ثم يغادر الدفان ويأتي الى الاسماع مؤثر السلاسل واقفال الباب
فواز : يا إلهي .. إنه لمْ يرنا ... و لمْ يشعر بنا .
( يغرق وديع بالضحك )
وديع : أتدري لمَ ...؟! لأني أنا وحدي من كان يراك ويشعر بك أيّها الغبي .
( ستــــــار )
٣ تعليقات
أعجبني
تعليق
مشاركة

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لحن الحنين/ نص لينا ناصر / لبنان ..................

من رواد الآرت نوڤو: ألفونس موتشا/ مقال للناقد محمد خصيف / المغرب ,,,,,,,,,,,,,,,,,,

رؤى .../ نص للكاتبة مها سلطان / مصر.............